وجهة نظر: من «ميتلستند» إلى «كيريتسو»: المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وقصص نجاح وتعثّر نحو اقتصاد مستقر

  • 3/17/2024
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تمثّل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم القلب النابض لأغلبية الاقتصادات المتقدمة، وتتمتع بدور فاعل في تعزيز النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل، والابتكار. وتكتسب دورا متزايد الأهمية في الاقتصادات الريعية يتمثل في تنويع الأنشطة الاقتصادية بما يحقق القدرة على تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها. قصص نجاح المؤسسات الصغيرة والمتوسطة متعددة الأوجه، وغالباً ما تركز على عناصر رئيسية مثل الابتكار، والمرونة، والحصول على التمويل، والسياسات الحكومية الداعمة. وتُعَد «ميتلستند» Mittelstand، وهي إشارة الى مجموع المؤسسات المتوسطة والصغيرة الحجم في ألمانيا، نموذجاً عالمياً للإبداع والتخصص، وتمثل 99.5 بالمئة من مجموع المؤسسات في البلاد، وتولد أكثر من 35 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي، وتوفر نحو 60 بالمئة من فرص العمل فيها. ويؤكد تركيز تلك المؤسسات على الأسواق المتخصصة والتقدم التكنولوجي، الدور المحوري الذي تؤديه في دفع النجاح الاقتصادي. في الولايات المتحدة الأميركية، أدت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تاريخياً دوراً فعالاً في التعافي الاقتصادي، وهي تمثل 99.9 بالمئة من مجموع المؤسسات، وتوظف نحو نصف القوى العاملة في القطاع الخاص الأميركي. ويذكر أنه في أعقاب الأزمة المالية عام 2008، خلقت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة أكثر من 60 بالمئة من الوظائف الجديدة بين عامَي 2009 و2013. أما في اليابان فيتكون نظام كيريتسو Keiretsu الياباني من مجموعات أعمال مترابطة من بينها العديد من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، والتي غالبًا ما توفر المدخلات التي تحتاجها المؤسسات الأكبر حجمًا، فتسهم بالتالي بشكل كبير في الاستقرار الاقتصادي لليابان. هذا، بينما تشتهر إيطاليا بمناطقها الصناعية التي هي عبارة عن مجموعات من مؤسسات متخصصة صغيرة ومتوسطة الحجم موجودة في مناطق محددة، حيث أضفت هذه المناطق مرونة على الاقتصاد الإيطالي خلال فترات الركود. وتمتد أهمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلى ما هو أبعد من الحدود الوطنية، فعلى سبيل المثال، في الاتحاد الأوروبي، تشكّل المؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم نسبة ملموسة من إجمالي صادرات السلع والخدمات. كما تؤدي هذه المؤسسات في البلدان النامية دورا حيويا في الإسهام بما يعرف بسلاسل القيمة العالمية، وفحواها أنه غالبًا ما تقوم المؤسسات بتقسيم عمليات الإنتاج الخاصة بها إلى مراحل متعددة كثيرًا ما تنقذها مؤسسات صغيرة ومتوسطة الحجم عبر بلدان مختلفة. وتواجه الاقتصادات الريعية، التي تعتمد بشكل كبير على الدخل من الموارد الطبيعية، تحديات مميزة، مما يجعل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ذات أهمية خاصة في معالجة هذه القضايا. فالمؤسسات الصغيرة ومتوسطة الحجم تسهم في تنويع مصادر الإيرادات، وتوفير فرص العمل خارج قطاعات الموارد، والتخفيف من التعرّض لتقلبات أسعار الموارد. وهي صاحبة دور محوري في تنمية المجتمع وتشجيع ريادة الأعمال المحلية، وتعزيز الابتكار التكنولوجي، وبالتالي تقليل الاعتماد على الواردات. وليست عوامل النجاح التي ترتقي بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم أسراراً بعيدة المنال، بل هي مزيج من عناصر استراتيجية محددة المعالم أساسها التركيز على الجودة والعلاقات مع العملاء والتعاون المحلي والدولي، فضلًا عن الدعم الحكومي من خلال سياسات مواتية ومساعدات مالية مناسبة. فعلى سبيل المثال، نفذت الحكومة السنغافورية خلال جائحة كورونا تدابير مختلفة لدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. كما أن تبنّي التكنولوجيا والاعتماد على قوى عاملة متعلمة، وتنويع نماذج الأعمال، يسهم في انجاح هذه المؤسسات. ومع ذلك، فإن مسيرة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لا تخلو من التحديات. فالعوامل التي تسهم في فشل البرامج الوطنية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة عديدة ومعقّدة، وتتراوح بين الافتقار إلى الوصول إلى التمويل والحواجز البيروقراطية ومحدودية الوصول إلى الأسواق، وعدم كفاية دعم البنية التحتية، والقصور في المهارات. كما أن ضعف التنسيق بين الجهات المختصة، والتنفيذ غير الفعال للسياسات، وعدم الاستقرار الاقتصادي، وصعوبة الوصول إلى المعلومات كلها عوامل تؤدي إلى تفاقم هذه التحديات. ففي اليونان، كافحت المؤسسات الصغيرة والمتوسطة للتصدي لتحديات عديدة، من أبرزها صعوبة الوصول إلى التمويل. وفي فنزويلا تأثرت تلك المؤسسات سلبًا بعدم الاستقرار الاقتصادي والاضطرابات السياسية وسوء البيئة الرقابية. وفي الأرجنتين أدت التقلبات الاقتصادية والتضخم والسياسات الحكومية المتغيرة إلى خلق تحديات أمام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بينما في أوكرانيا، واجهت تلك المؤسسات صعوبات بسبب اضطرابات خطوط التجارة، ومحدودية التمويل، وعدم اليقين المرتبط بالأحداث الجيوسياسية. وللتغلب على مثل هذه العقبات، لا بد من اتباع نهج تعاوني شامل، وأن تركز المبادرات على الحد من الحواجز البيروقراطية، وتعزيز الوصول إلى الأسواق، وتوفير دعم البنية التحتية، وتقديم برامج تنمية المهارات. ويعد التنفيذ الفعال للسياسات، والتدابير اللازمة لضمان الاستقرار الاقتصادي، وتحسين آليات الرصد والتقييم، عناصر أساسية لانجاح البرامج الوطنية للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وفي الختام، لا يمكن إنكار الدور المحوري الذي تؤديه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصادات الوطنية، وتقدم قصص نجاحها وتحدياتها رؤى قيمة حول تعزيز النمو الاقتصادي والقدرة على الصمود. ويجب على الحكومات وأصحاب المصلحة الاعتراف بأهمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتنفيذ التدابير الداعمة لضمان استمرار مساهمتها في تحقيق اقتصادات نابضة بالحياة ومتنوعة. وبينما تشق المؤسسات الصغيرة والمتوسطة طريقها ضمن أطر اقتصادية قد يكتنفها التعقيد أحيانًا، فإن انتصاراتها تكون بمنزلة منارات للإلهام، مما يؤكد مرونتها وقدرتها الكامنة على إحداث التحول والاستقرار الاقتصادي المنشود. * كاتب واقتصادي عربي

مشاركة :