تُعدّ رواية «المعلّم ومارغريتا» للكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف (دار التنوير- ترجمة يوسف حلاق) إحدى أبرز روايات الحب المحفزة لأنواع مختلفة من المشاعر. اشتغل ميخائيل بولغاكوف على روايته لمدّة اثني عشر عاماً في ظلّ الديكتاتورية الستالينية، مدركاً تماماً أنه لن تكون له أيّ فرصة لنشرها في حياته. كتبها صاحبها وأحرق مخطوطتها عام 1930 ثمّ أعاد كتابتها من ذاكرته عام 1931، وأنهى مسوّدتها الثانية عام 1936 ثم الثالثة عام 1937 وظلّ يعمل على إعداد المخطوطة الرابعة حتى وفاته عام 1940. ولم تجد الرواية طريقها الى النور إلا بعد ستة وعشرين عاماً، عندما نشرتها أرملته في مجلة موسكو الأدبية في حلقات بدءاً من تشرين الثاني (نوفمبر) 1966. نسخ بولغاكوف فصول الرواية الأخيرة حنى آخر مسودة، ومات قبل أن يلائم بينها وبين الرواية وفق نسختها الأخيرة، فتولت زوجته ضمّ الفصول الأخيرة من المسودات السابقة إلى المسودة الأخيرة للراوية، قبل إعداد النسخة الأخيرة منها. انتصار الفن «المعلّم ومارغريتا» هي الرواية الأخيرة التي كتبها بولغاكوف (1891 – 1940) ويصنّفها بعض النقاد بأنها تحفته، وشكّل نشرها (بين عامي 1966 – 1967 )، بعد حذف فقرات كثيرة منها لأسباب تتعلق بالرقابة، حدثاً بذاته، وتركت وقعاً كبيراً في نفوس القرّاء المنجذبين الى الفن والحرية، حتى باتت «المعلّم ومارغريتا» من روايات روسيا الكلاسيكيّة، وبات بولغاكوف واحداً من أبرز الكتاب الروس من أمثال دوستويفسكي، غوغول وتشيخوف. وجاءت «المعلم ومارغريتا» لتؤكّد انتصار الفن، بعدما هدّد الطغيان السياسي الرواية كما سائر الفنون، غير أنها استمرّت إلى ما بعد انتهاء الحقبة الستالينية، وتُرجمت إلى لغات عدة، ثمّ اعتُمدت في المسرحيّات وأغاني الأوبرا، كما تمّ عرضها على الشاشة الصغيرة. تتمتّع هذه الرواية بازدواجيّة الجدّ والهزل في آن، أو حسّ الفكاهة الممزوج مع خيال غرائبي. أمّا السرد فيدور فيها على مستويين يلتقيان في نهاية المطاف. كتب ميخائيل بولغاكوف، بسخرية مدمّرة، الحياة السوفياتيّة خلال الفترة الأظلم من نظام ستالين. فجاءت الرواية بمثابة هجاء للنظام الاجتماعي السوفياتي، وهجاء لفترة حكم ستالين، ونقداً قاسياً للتجربة الماركسيّة عموماً. تتحدث الرواية عن زيارة مفترضة يقوم بها الشيطان «فولند» إلى موسكو، العاصمة السوفياتية، في أوائل الثلاثينات، ووقائع هذه الزيارة. وتبدأ من مشهد يتجادل فيه الشاعر «بزدومني» والأديب «برليوز»، رئيس رابطة «الماسوليت» الأدبية حول وجود المسيح والشيطان، ليظهر لهما «فولند» ويثبـــت وجــــود المسيح والشيطان في حكاية مشهد لقاء «بيلاطس» البنطي مع «يسوع» الناصري، ثم يتنبأ بموت «برليوز»، وإصابة «بزدومني» بالشيزوفرينيا. يظهر «فولند» بعدها في شقة «برليوز» التي يتقاسمها مع مدير مسرح منوعات اسمه «ليخدييف»، ويُرسل «ليخدييف» إلى يالطا، ليستولي على الشقة مع عصابته التي روعت «بزودمني»، «كرفيوف» و«بيهموث» القط. وتنضم إليهم في ما بعد «هيلا» مصاصة الدماء، و «عزازيلو» القاتل المأجور. يتولى «كرفيوف» تنظيم حفلة للسحر الأسود وفضحه، لرغبة «فولند» في مشاهدة أهل موسكو، فيمتلئ المسرح عن آخره، ويحيي «كرفيوف» و «بهيموث» الحفلة التي تمتلئ بالأمور المرعبة والغريبة. يظهر «بيلاطس» البنطي من جديد متدبّراً أمر العفو عن المسيح، لكنّ الكهنة اليهود يرفضون ذلك، ومن ثم يظهر «ليفي ماتفي» متى العشار محاولاً إنقاذ المسيح من العذاب من دون فائدة. رواية محترقة يقابل «بزودمني» المعلم، ويعرف منه أنه قابــل الشيطـــان في البداية، كما يعرف أنّ المعلـــم كتــــب رواية عن «بيلاطس» البنطي والي اليهودية الخامس، ويعلم عن حبّه لـ «مارغريتا». يدبر «بيلاطس» البنطي مقتل «يهـــوذا»، وتقبل «مارغريتا» دعوة «عزازيلو» لزيــارة «فولند»، فتصبح ساحرة، وتنضم إلى الشيطان مع خادمتها في حفلة يقتل خلالها البارون مايغل، إحدى الشخصيّات البارزة المكلفة بالتعامل مع السياح، والسبب مشكلة بينهما. ثمّ يعودون جميعاً إلى الشقة الرقم خمسين حيث يواصل «كرفيوف» و«بهيموث» حيلهما وألاعيبهما. تطلب «مارغريتا» من «فولند» أن يحضر لها المعلم، فيستحضره لها، ويعيد له روايته المحترقة قائلاً أنّ الكتب لا تحترق، ويعود «المعلم ومارغريتا» إلى شقة الأخير، في حين يقوم «كرفيوف» و «بيهموث» بمجموعة مغامرات أخيرة، بعدها تحاصر الشرطة الشقة رقم خمسين والتي تكرّرت الإخباريّات الغريبة في شأنها، لكنّ «بهيموث» يهزأ برجال الشرطة، ويحرقها، ويغادر برفقة «فولند» و «كرفيوف» في وضح النهار مودعين موسكو. يأتي متى العشار لمقابلة فولند في شأن المعلم، ويطلب منه أن يقوده إلى الطمأنينة لا إلى النور، فيستدعي فولند المعلم ومارغريتا، وينطلق برفقة عصابته إلى الملاذ الأبدي. تحوي الرواية الكثير من التفاصيل: الشيطان، والقط الذي يكسّر بحكمة، ويسوع باعتباره الإنسان، ومواضيع كالحب، وتلميحات عن التجديف... لكنّ التفاصيل لا توضع عبثاً، إنها محكومة بالبناء الروائي، وهي بدورها تناسب كل مكونات الرواية، من ناحية ما نريد قوله من خلالها، وهي عملية توازن تتطلبها الحياة نفسها، التي تستقي الرواية منها مفرداتها وأحداثها ورؤاها. ويشكّل تراكم هذه التفاصيل البنية الأساسيّة للرواية، ليكشف سبب هذا الطغيان السردي وأهميّته. وبفعل الإحالات والرموز التي تحفل بها الرواية، احتاجت إلى توضيحات من الناشر تحيل على أحداث وأفكار كبرى. فالرواية التي تعد من أشهر أعمال الأدب الروسي وأكثرها صدقاً، مليئة بالإشارات إلى أماكن وأحداث حصلت وعاشها الكاتب في مرحلة تميّزت بالخوف والاعتقالات والاغتيالات إبان حكم ستالين، مما دفع بكاتب كبير مثل بولغاكوف الى أن يؤجل نشر روايته، ويقوم بإجـــراء تعديلات عليها لمدة تزيد على عشر سنوات، في محاولة للتعبير عن ذلك الخوف وعن حالتَي الجنون واللامعقول اللتين سادتا تلك المرحلة في الاتحاد السوفياتي. إنّ سوداويّة الوقائع، وانقطاع الأمل، وحياة البؤس التي لا أمل بالخروج منها، وإجبار الناس على الخضوع، كل هذه تجعلهم ضعفاء وعلى استعداد لتقبّل كل شيء، بما في ذلك الشيطان والسحر. وتصبح شخصيات مثل فولند وبيغموت وكوروفييف، شخصيات مقبولة، بل محبوبة ما دامت تقدّم للناس ما يحلمون بالحصول عليه من لباس على الموضة، وعملة أجنبيّة، ومسكن مقبول، وحب حقيقي، وإبداع بلا خوف، وحرية... هكذا تلحق مارغريتا بالشيطان لأنه يحقق حلمها بالعيش مع حبيبها. مــن فاوست، من المسيح في مواجهة بـــيلاطس، ومن متى ويهوذا، وكانط، وتولستوي، وغوغول وغيرهم يستمد بولغـــاكوف رؤيته في مواجهة تلك الأيام الشديـــدة الوطأة على الناس في الاتحاد السوفيـــاتي، التي انتشرت فيها الاتهامات بالعمـــــالة، وكراهية الأجانب، والشك في كل شخص، والتعرّض للاعتقال لأدنى سبب.
مشاركة :