ثمة عديد من الأسباب التي تدفع «حماس» نحو التموضع في الخريطة السياسية في الإقليم، إلى جانب النظام الإيراني وتوابعه، مثل «حزب الله» و«الحوثيين» في اليمن، وميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق؛ وكذلك مع نظام الأسد. لعل أهم تلك الأسباب تتمثل في انحسار «الربيع العربي»، واستعصاء التغيير السياسي في البلدان العربية، وتحول الأمر إلى «خريف» لتيارات الإسلام السياسي، بشقيه «السني» و«الشيعي» (كما تبدى في تموضع «حزب الله والحوثيين والحشد الشعبي» في حراسة واقع الفساد والاستبداد والتبعية لإيران في مجتمعاتهم). ويأتي ضمن ذلك انكشاف التيارات الإسلامية، ليس لأسباب موضوعية فقط وإنما لأسباب ذاتية أيضاً، إذ إنها لم تنجح، أو فشلت، في اختبارات إدارة السلطة والمجتمع، وهو الأمر ذاته الذي حصل مع غيرها من التيارات الأيديولوجية الأخرى، فضلاً عن اختلافاتها، وتنافساتها، واقتتالاتها، البينية. يأتي ضمن ذلك نكوص تركيا عن موقفها من «الربيع العربي»، وهو ما تمثل في إعادة علاقاتها مع إسرائيل (حزيران/يونيو 2016)، بالتوازي مع سعيها الى إعادة التموضع في الإقليم، عبر تطبيع علاقاتها مع الأنظمة العربية التي ناصبتها العداء في مرحلة سابقة. أما على الصعيد الداخلي فيمكن إحالة ذلك إلى غلبة التيار الأيديولوجي المتشدد في «حماس»، المحسوب على الجناح العسكري، فهذا التيار أحوج إلى الدعم الخارجي (السلاح والذخيرة والمال)، وكل ذلك لا يمكن تأمينه إلا من مصدر واحد (إيران)، أي لا من قطر ولا من تركيا، علماً أن إيران تقدم الدعم لـ«حماس» وفقاً لأجندتها هي، أي باعتبارها ورقة في يدها، للمساومة على نفوذها الإقليمي، وفي الملف النووي، بدليل أن طهران لا ترد على اعتداءات إسرائيل المتوالية عليها وعلى ميليشياتها، وبدليل أنها لا تقطع التفاوض مع الولايات المتحدة في شأن ملفها النووي، أو أي ملف آخر. يمكن إضافة أسباب أكثر عمقاً تفسر موقف «حماس»، مفادها أن تلك الحركة عندما اتخذت موقفاً سياسياً داعماً لثورات «الربيع العربي»، اتخذته، على الأرجح، من زاوية براغماتية، باعتباره «ربيعاً» إسلامياً، ومع بروز موقف تركيا (وقطر) كداعم للحركات الإسلامية في تلك المرحلة، ما يعوض عن إيران. وفي ذلك يبدو إن «حماس» ظنت أن رياح التغيير في العالم العربي، التي حملت التيار الإسلامي إلى السلطة، يمكن أن تعزز مكانتها القيادية في الساحة الفلسطينية، إزاء حركة «فتح»، التي كانت تمكّنت من ذلك بفضل تحولات النظام العربي بعد حرب حزيران (يونيو) (1967). وهذا يفسر إن تلك الحركة تتصرف في الواقع من زاوية أنها سلطة، في الإقليم الذي تسيطر عليه في غزة، أكثر من كونها حركة تحرر وطني، معنية برأي الناس في مواقفها، أو بالقيم السياسية او الأخلاقية التي تلتزم أو لا تلتزم بها. والخلاصة هنا أن «حماس» لم تحسم أمرها، بين كونها حركة وطنية، أو حركة اممية أو هل هي حركة سياسية أو حركة دينية أو هل هي حركة تحرر وطني أم سلطة؟ هل هي سلطة أم مقاومة؟ تبعا لما تقدم فإن مشكلة «حماس» تكمن في حيرتها بتحديد خياراتها، ومعرفة ما تستطيعه وما لا تستطيعه، وضمنه التوضيح لشعبها ما تريد، أو كيفية تحقيق ما تريد، في غزة، الذي يشكل فقط 1.4 في المئة من مساحة فلسطين، يعيش فيه مليونا فلسطيني في ظروف صعبة، وفي منطقة تفتقد إلى الموارد، وفي حالة حصار إسرائيلي مشدد منذ سيطرتها كسلطة (2007)، مع التعرض لحرب مدمرة بين فترة وأخرى. الفكرة هنا أن ثمة وهماً عشعش لدى «حماس»، أو لدى جناح فيها، مفاده أنه يمكن تحميل غزة، فوق ما يحتمل، في تحرير فلسطين، أو دحر الاحتلال من الضفة، علماً أنه رغم كل الحروب، وكل الصواريخ والأحاديث عن «توازن الرعب»، وعن «الردع المتبادل»، وعن «زلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل»، فإن «حماس» لم تستطع رفع الحصار عن القطاع، بل إن أوضاع القطاع ظلت تزداد بؤساً، ناهيك بالهيمنة السلطوية لـ«حماس» على مجتمع الفلسطينيين في غزة، مع كل التقدير للتضحيات والبطولات. في المحصلة ومع المبالغات بالقدرات الذاتية، ووهم ما يسمى معسكر «المقاومة والممانعة»، و«وحدة الساحات»، فقد نجم عن ذلك شن إسرائيل حرب إبادة جماعية ضد قطاع غزة، ما زالت مستمرة منذ ستة أشهر، كرد على هجمة حماس يوم 7 أكتوبر، نجم عنها نكبة فلسطينية غير مسبوقة. ومشكلة حماس هنا، وعدا عن المبالغات، ووهم فكرة وحدة الساحات، أنها لا تريد أن ترى الارتدادات العكسية للنفوذ الإيراني في المشرق العربي، الذي مجرد استغل يافطة فلسطين، وأدى ولو بشكل غير مباشر، إلى كل هذا الخراب والانشقاق الدولتي والمجتمعي من العراق إلى لبنان مروراً بسوريا، ما أفاد إسرائيل أكثر مما أضرها، أي إن إيران قدمت في ما فعلته في تلك البلدان أكبر خدمة لإسرائيل، ونظرة إلى واقع سوريا والعراق ولبنان واليمن تؤكد ذلك. باختصار، فإن «حماس» في سياساتها الفلسطينية، وإدارتها لمجتمع فلسطينيي غزة كسلطة، وفي علاقاتها الإقليمية، وحتى في طريقة إدارتها للصراع ضد إسرائيل في السنوات الماضية، ومؤخرا في هجمة 7 أكتوبر، تبدو وكأنها كانت تتوخى، أو تطمح، لأن تكون بمثابة «حزب الله» الفلسطينيين، وهو طموح ينم عن ضياع، وحيرة، في السياسة، وضمن ذلك تأتي محاولة «حماس» تطويب قاسم سليماني كشهيد للقدس! شاهد| البث المباشر لقناة الغد
مشاركة :