ما الذي يمكن أن يقوله شاعر حول الرواية في علاقتها بالمخيلة ؟ حيث المخيلة في تعريفي «هي نسيان ما يتعلمه المرءُ، شريطة أن يتورط في معرفة العالم». فيما مضى اختبرتُ عالم الرواية بالكثير من المناهج النقدية والمصطلحات والمفاهيم التي تتعلق بالسرد وخصائصه، وكان الدافع هو الاقتناع التام - في حينه - أن المناهج النقدية المتعددة توسع مداركنا وتعيننا على الدخول في الغابة الروائية بما يسمح لنا أن نكتشف دروبها السرية ومخابئها المغطى بالأشجار، والتعرف على مختلف الألوان من كنوزها، فالغابة التي تسلمك كنوزها هي بفعل التسلح بتلك المناهج كما كنا نظن، والغابة التي تعطيك أغلى ثمارها هي أيضا بفعل الجهد المضاعف الذي يمارسه الناقد في تطبيقاته العملية، أما الناقد الذي تنغلق عليه الغابةُ نفسها، فهو بالتأكيد في خانة الذين لم يأخذوا الزاد الكافي من ذخيرةالمناهج، ولم يملؤوا بها خزانات عقولهم. في التقليد الأكاديمي حين يختار الطالب - أوالطالبة - في دراساته العليا تخصصا في النقد الروائي، وبعد أن يتفق مع أستاذه على الخطة المنهجية حيث من خلالها يدرس الرواية، يبدأ لاحقا في البحث عن تلك الروايات التي تلائم خطة المنهج، وعلى هذا المنوال المعروف برزت دراسات نقدية أكاديمية حول الرواية، تختلف طبيعة تناولها باختلاف طبيعة المنهج والأسلوب والمضامين، وأصبح الكم الكبير من هذه الدراسات يقترب في كثرته من كثرة الرواية نفسها، ويرتبط بها عضويا كلما نشطت الأندية الأدبية والصحف والجامعات في إتاحة الفرصة للذين هيئوا أنفسهم من النقاد الجدد كي يقرؤوا الرواية انطلاقا مما تعلموه من الدرس الأكاديمي. ما ينطبق على الرواية ينطبق أيضا على الشعر، بيد أن الرواية في الآونة الأخيرة هي الأكثر اقترابا من الخطاب النقدي، هذا التقليد الأكاديمي راسخ الجذور في المؤسسات التعليمية كافة، له من المساوئ بالقدر الذي له من الإيجابيات، وهذه لا تلغي تلك في مجرى الثقافة الفاعلة. لكن ماذا لو رجعنا قليلا إلى الوراء، إلى نظامنا التعليمي ما دون الجامعي، فهل تستطيعون أن ترسموا في مخيلتكم الوضع كما أتصوره على الشكل التالي: مجموعة من الطلاب والطالبات على مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية، يتلقون تعليما عن الأدب وفنونه بوصفه جملة من المفاهيم، لا تنفتح على الحياة اليومية التي من شأنها أنتربي المخيلة لديهم، بالقدر الذي تنفتح فيه على ماضي الأدب وتراثه، يتلقون مفهوما عن الشعروالقص والسرد يعزز انتماءهم بالهويات الفئوية، لكنه لا يعزز فردانيتهم وحريتهم الذاتية، يتلقون تماما ما ينسجم مع السلطة المزدوجة: سلطة النوع الأدبي من جهة، والنظام التعليمي من جهة أخرى، هؤلاء الطلبة هم أنفسهم الذين سيتخصصون لاحقا في النقد الأدبي، ويمارسون رؤيتهم الجمالية حول النص الأدبي شعرا ورواية. النتيجة ما هي ؟! للحصول على الإجابة، ينبغي أن نتقدم قليلا، لننظر إلى مآلات هذه الفجوة التي يعبرها الطلاب من المرحلة الثانوية إلى المرحلة الجامعية، من تلقين مدروس إلى انفراج نسبي، من تفكير جمعي إلى محاولة في التفكير الفردي. هذه الفجوةُ من تأثير على مستوى التفكير والرؤية إلى الذات والذوق الجمالي، يمكن رصده فيما يلي : أولا: الدراسات الأدبية هي الأكثر استحواذا على مناهج العلوم الإنسانية الحديثة في مجمل تطبيقاتها على النصوص الإبداعية. ثانيا: السبب وراء هذا الاستحواذ حيث يكمن في تصوري من قوة التباين في مركزية النصوص وأهميتها بالنسبة لسلم القيم الثقافية التي تشكل عماد الهوية المركبة للمجتمع، فالنص الديني، ونص المجتمع على سبيل المثال يشكلان قمة السلم، بينما يتم التساهلُ فيما يتعلق بالنص الأدبي باعتباره نصا فائضا عن الحاجة. @MohammedAlHerz3
مشاركة :