المجامع اللغوية هي الأماكن المنوط بها العمل على تطوير اللغة ومحاولة تجديدها بما يناسب العصر الحديث، لكن المجامع اللغوية العربية تمر بأزمة حقيقية من عدم إحساس الناس بوجودها وسيطرة المصطلحات الأجنبية رغم وجود بدائل عربية. رغم مرور ما يقارب مئة عام على تأسيس أول مجمع لغوي عربي هو المجمع العلمي بدمشق الذي تأسس عام 1919، ورغم انتشار المجامع على مدى القرن الماضي في عدة بلدان عربية إلا أن هذه المجامع - وإن كانت قد قامت بدور في بداية تأسيسها، فإنها تراجعت إلى الظل في ظروفنا الراهنة، ولم يعد أحد يسمع بها إلا في مناسبات خاصة، ولم يعد لها اتصال بالحياة الثقافية ولا بالساحة الإعلامية وحتى التربوية، ما يعني أن دورها أصبح باهتاً إن لم يكن معدوماً، وهي التي تأسست من أجل الحفاظ على اللغة العربية بلغتها ونحوها وصرفها وتراثها العلمي، وجعلها تُجاري العصر بإدخال ما يمكن إدخاله إليها من مفردات جديدة ومصطلحات، واستخراج ما يمكن استخراجه من صيغ صرفية، وتسويغ ما يمكن تسويغه من استخدامات أسلوبية ونحوية، حفاظاً على اللغة من أن تصبح فوضى لا ميزان لها، فتسقط في الغلط واللحن وتتفكك وتتلاشى. مجامع اللغة ظاهرة لا تختص بها الدول العربية، ففي أغلب دول العالم هناك مؤسسات أو أكاديميات لغوية مماثلة لهذه المجامع، تعنى بحفظ لغات مجتمعاتها، وتراعي ما يستجد في هذه اللغات مع المواضعات والتقاليد المعيارية لتلك اللغات، حتى تظل محافظة على خصوصيتها، ولا تتفشى فيها الميوعة فتفسدها وتحيلها إلى لغة رطانة ولغة شارع عديمة النسق، عديمة الهوية، لا قدرة لها على الإبداع، لكنّ هذه المهمة في ما يخص المجامع العربية تحتاج إلى تنسيق لا يزال حتى الآن غائبا، فيفترض أن تكون هناك آليات تنسيق تصل ما بين هذه المجامع وبين متعاطي اللغة العربية الفصحى، بحيث أنه عندما يطرح المجمع رأيه في أية مسألة ينقل هذا الرأي قطاعات المتعاطين للغة لكي يأخذوا به، ويجرون عليه في كلامهم، فيصبح الرأي معمماً ساري المفعول، وهذه القطاعات يمكن حصرها في المؤسسات الإعلامية والمؤسسات التعليمية والمؤسسات الثقافية، فحين تعمم الكلمة الصحيحة أو القاعدة الصحيحة أو الأسلوب الصحيح على هذه المؤسسات وتستخدمه فإنه بالتالي سيشتهر ويصبح عادة لغوية يجري عليها الكتاب والمتكلمون، وفي هذه العملية يحدث أمران متلازمان، هما التجديد والالتزام بالقواعد، فالتجديد بإضافة لفظ أو صيغة صرفية أو أسلوب جديد إلى اللغة، والحفاظ على القواعد يأتي من كون الخبراء المختصين أعضاء المجمع ينطلقون في تعاملهم مع الظواهر اللغوية الجديدة بقياسها على القواعد والبحث لها عن تخريجات تماشي أو تقارب تلك القواعد، فهنا يكون تجديد واستمرارية في الآن نفسه. رغم غياب ذلك التنسيق المفترض بين المجامع وقطاعات مستخدمي اللغة الفصحى، فإن وضع اللغة العربية الفصحى اليوم ليس بالسوء الذي يظنه كثيرون، فإذا تحاشينا النصف الفارغ من الكأس، سنجد أنها قطعت أشواطا كبيرة من التطور بفضل فاعليتها الذاتية العجيبة، وقدرتها على الاستيعاب، وعلى إلباس الجديد بثوب قواعدها، وتكييفه بمكيفات صياغتها الاشتقاقية والوزنية والنحوية، فكلمة مثل (الإيميل)، خرجت من نسقها الإنجليزي المركب من E التي تشير إلى الإلكتروني وMail وهو البريد، لتكون في العربية كلمة واحدة تعرّف بأل وتنون - لمن يصرفها- ويتغير آخرها بتغير موقعها من الإعراب رفعاً ونصباً وجراً، فتضم وتفتح وتكسر، وهي اليوم وإن لم تكن اسما متمكنا بعبارة النحاة، فإنها على الأقل اسم متمكن في النسق العربي، وعلى هذه تقاس كلمات كثيرة مثل (الموبايل والواتساب والفيس بوك والتويتر) فهذه الكلمات على جدتها في ثقافتنا لم تأخذ اللغة وقتا طويلا في دمجها، وصبغها بصباغها السحري الذي يتكفل بحمايتها بشكل تلقائي. هذا في جانب أما في جانب آخر فإن اللغة العربية تكسب اليوم مناطق جديدة كثيرة أصبح لها حضور فيها مثل المحتوى الإلكتروني على شبكة الإنترنت ومثل البرمجيات التشغيلية للأجهزة الإلكترونية، ومعلوم أن عالم البرمجيات التشغيلية هو أحد مناطق هيمنة اللغات اليوم، وكلما أحدثت فيه لغة ما تقدما كلما أثبتت حضورها وقابليتها للتطوير ومسايرة الواقع، وموقع العربية في هذا المجال تطور كثيرا في السنوات الأخيرة خصوصاً في عالم الكمبيوتر والأجهزة اللوحية وأجهزة الموبايل، هذا فضلاً عن حضورها الإعلامي، وتطور إبداعها الأدبي، وهذا يجعلنا ننظر إلى مستقبل اللغة العربية بتفاؤل. إذا عدنا إلى النصف الفارغ الذي تحاشيناه آنفا، فسنقر بأن هناك تهديدات مرعبة للفصحى لا يمكن تجاهلها، وتتمثل في هيمنة اللغات الأجنبية في قطاعات التعليم والعمل والإدارة في الوطن العربي، وفي الحضور المتزايد للهجات العربية في قطاع الإعلام، وفي الإنترنت، ومهما كانت قوة الفصحى الذاتية، فإنها لن تستطيع أن تقف أمام تلك التهديدات، كذلك فإن التطور المتزايد للبرمجيات اللغوية العربية سببه تجاري بحت، وليس تصميما من أجل الحفاظ على اللغة، ولهذا فإن المختصين يأخذون عليه الكثير من المآخذ، ويكتشفون فيه أخطاء تعارض أنساق اللغة العربية، فلا يمكن أن يعول عليه وحده للحفاظ على اللغة، إن التهديدات عميقة وقاتلة، إذا لم تواجه بشكل منظم وببرامج واضحة لترقية اللغة العربية في مجال التعليم وسوق العمل، وبقوانين لحمايتها، وبتنسيق بين مجامع اللغة العربية وبين المتعاطين للغة العربية الفصحى، ولعل إعلان صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة عن تأسيس مجمع للغة العربية في الشارقة سيحفز عمل هذه المجامع، ويزيد من حضورها في الحدث اللغوي اليومي، وما يجعلنا نتفاءل هو أن سموه أعلن أن ذلك المجمع سيتكفل بجميع احتياجات المجامع العربية أينما كانت، وسيكون على رأس أولوياته القيام بتمويل إصدار القاموس اللغوي التاريخي وكل ما يتعلق به، فالتكفل باحتياجات المجامع العربية يعني أنها ستكون قادرة على إجراء البحوث والدراسات في ظروف مواتية، ونشر نتائجها، وتعميمها على من يهمهم الأمر، وأن تُوجِد ذلك التنسيق الضروري لعملها، الذي تحدثنا عنه سابقاً.
مشاركة :