كثيرٌ من الناس يبدأ داعيةً إلى الله، إلى العقيدة الحقَّة، إلى الإسلام الصحيح، فإذا به -من حيث يعلم أو لا يعلم- يجدُ نفسَه قد انحرَفَتْ عن همِّها الأكبر، فصار داعيةً إلى أشخاص، وربما صار داعيةً إلى جماعةٍ من الجماعات، فهذا هو الهوَى الذي يَقذف بصاحبه إلى المعاصي والفسق، وربما قذف به إلى الانحراف والضلال، بل ربَّما أوقع بصاحبه في الكفر، وقد قال الله -تعالى-: «بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ»، وقد سمَّى علماؤنا مَنْ وقع في هذه البليَّة: أهلُ الأهواء وما ذاك إلا لِتَسَلُّط أهوائهم القلبيَّة وانفعالاتهم وطيشهم، على آرائهم وأقوالهم وسائر تصرُّفاتهم، ومعلومٌ أنَّ للحماس وشدَّة الغضب جبروتا وسَطوَة قاهرة للنفس، فيجدُ المغتاظ من طيش عَقْلِه لذَّةً في تَرْك الاستماع لنداء العقل، فضلا عن مقتضيات الشرع، فلا تنحصرُ نفسُه عن ارتكاب القبائح، بل ترجع إلى غيِّها وطغيانها، وقد قيل: والنفس داعيةٌ إلى الطغيان، وهكذا يقع المرء في اتِّباع الهوى، بسبب الغضب الذي هو غُولُ العقل، فالإنسان إذا غضب فقد صوابَه، وصار بمنزلة مَن كان أغْلَبُه خارجاً عن الدُّنيا وأقلُّه حاضرا فيها، فلا يلتفتُ للسان الشرع، لأنه انْقادَ لِداعِيَةِ هواه، فلا يجوز في دين الإسلام أن يُجعل تفسير القرآن والسُّنَّة وفَهْمهما إلى مَن خفَّ حِلمُه وطاش عقلُه، بل كان علماؤنا يحتاطون في هذا الأمر أشدَّ الاحتياط، وأذكر هنا حكايةً عن التابعيِّ الجليل أبي بكر بن هُرمز، فقد كان الإمام مالك وعبدُالعزيز بن أبي سلمة ومحمد بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هُرمز، وكان إذا سأله مالكٌ وعبدُالعزيز أجابهما، وإذا سأله ابنُ دينار وذووه لا يجيبهم! فتعرَّض له ابنُ دينار يوما، فقال له: يا أبا بكر، بمَ تستحلُّ مِنِّي مالا يَحلُّ لك؟ فقال ابن هرمز: يا ابن أخي، وما ذاك؟ قال ابنُ دينار: يسألك مالكٌ وعبدُالعزيز فتجيبهما، وأسألك أنا وذويَّ فلا تجيبنا؟ فقال ابنُ هرمز: أَوَقَعَ ذلك يا ابنَ أخي في قلبك؟ قال ابنُ دينار: نعم، قال ابنُ هرمز: إني كَبُرَتْ سنِّي، وَرَقَّ عظمي، وأنا أخاف أنْ يكون خالَطَني في عقلي مثلُ الذي خالَطَني في بدني، ومالكٌ وعبدُالعزيز عالِـمان فقيهان، إذا سمعا منِّي حقّاً قَبِلاه، وإذا سَمِعا خطأً تركاه، وأنت وذووك، ما أجبْتُكم قَبِلْتُموه! فعلَّق الحافظُ محمد ابن حارث القيرواني على جواب ابنِ هُرمز بقوله: (هذا والله هو الدين الكامل والعقل الراجح، لا كمن يأتي بالهذيان، ويريد أن يَنْزِلَ مِن القلوب مَنزلةَ القرآن) وقد سمعنا في هذه الأيام كثيراً من الفتاوَى التي خرجتْ من شبابٍ صدورهم تَغلي من الغيظ غليان المرجَل، فخرجتْ عقولهم عن قانونٍ يَعْقلها، فأصبح أحدُهم يهذي بفتاوَى لا خطام لها ولا زمام، تُستباح بهذه الفتاوى الأموال وتُهتك الأعراض وتُسفك الدماء. وما أنزل الله دينَه بما فيه من عقائد وشرائع وأخلاق، ليكون مرتَعاً لكلِّ أحد، كلٌّ يفسِّر نصوص القرآن والسُّنَّة من غير أصولٍ ولا قواعد، فهذا لا يسمِّيه العلماءُ اجتهاداً، وإنما يسمُّونه حدْساً وتخمينا، ذلك أنَّ الاجتهاد لا يكون اجتهاداً صحيحاً إلا إذا استند إلى أصول الاجتهاد وضوابطه، وهي أصولٌ مبسوطةٌ في كتب أصول الفقه، فمرجعيَّتُنا أصولٌ وليستْ أشخاصا، والمتتبِّع لتاريخنا الإسلامي يدرك أنَّ فِرَقاً وجماعاتٍ نبتتْ على جسم الأمَّة الإسلامية، ولم تكن هذه الفرَقُ تستند إلى أصول الشريعة، بل تستندُ إلى الطيش والغضب الذي هو أعْوَنُ أخلاق بني آدم للشيطان، وبسبب هذا الشَّطح والشذوذ في المرجعيَّة، فإنك تجدُ أن هذه الفرق تتوالد وتتكاثر بكثرة المرجعيَّات والزعامات، ذلك أنَّ كلَّ فرقةٍ مَرجعُها هو فَهْمُ زعيمها، فإذا خرجَ أحدُ أفرادها عن فهمِ هذا الزعيم، انقضُّوا عليه بالويل والثبور، ورَمَوه بعظائم الأمور، وربما اتَّهموه بالخيانة والعمالة للأجنبي، وربما استباحوا دمه، وهكذا صاروا دعاةً إلى زعامات، بعد أنْ كانوا دعاةً إلى الله.
مشاركة :