علاقة الولايات المتحدة مع إيران في التاريخ المعاصر، هي كرقصة الفالس المشهورة، خطوة إلى الأمام والأخرى إلى الخلف، وكل شريك يرغب في جر الآخر نحوه، الشريكان ينظران إلى عيني بعضهما بعضًا لاستجلاء الخطوة القادمة والتصرف في مواجهتها، ستبقى تلك الرقصة في ذهاب وإياب إلى زمن قادم، قد يطول نسبيًا. في الخليج، هناك نقاش واسع بين النخب ومتخذي القرار والأكاديميين لمحاولة الإجابة عن سؤال: كيف يمكن لنا أن نتعامل مع إيران؟ يسبقه في تقديري سؤال أهم، هو كيف نفهم إيران؟ عندما نفهمها نستطيع أن نضع الخطط للتعامل معها، أما قبل ذلك فتصبح الإجابة عن السؤال الأول شبه مستحيلة. وهناك على الأقل ثلاث قراءات تناقش بين متابعين للشأن الإيراني. القراءة الأولى، أن إيران بلاد كبيرة يقطنها أكثر من ثمانين مليون نسمة، وهي غنية نسبيًا، وقد صلب عودها الاقتصادي بعد المقاطعة الدولية واعتمادها على نفسها، فأصبحت من القوى الصناعية التي يعتد بها، وتبنت ترسيخ العلوم الحديثة بين طائفة واسعة من مواطنيها، بدليل إنتاجها العسكري والنووي الذي تحقق، ويتكالب على خطب ودها رجال الأعمال من الغرب والشرق. وعليه، فلا بد من التعامل معها، وقبول حتى بعض أخطائها ومحاولة كسبها، وقد تغير بعد توقيع الاتفاق النووي مع الغرب من مواقفها وتسير في ركاب (الدولة العاقلة)، ربما تحتاج إلى وقت، فلنعطها هذا الوقت ونحسن النوايا ونتوقع الأفضل. أما القراءة الثانية، فتقول إن إيران الحالية هي امتداد (للتطلع الفارسي / الصفوي)، وإلى التمدد الإمبراطوري عن طريق الحروب، أو التلويح بها، وهي (زرادشتية / مجوسية)، يجب أن نستعد لمحاربتها في كل المواقع وبكل الوسائل، وتهيمن اليوم على عدد من الحكومات العربية، وتحاول أن تتمدد أيضا في أماكن أخرى. وتستدعي هذه القراءة الكثير من تاريخ الصدام العربي - الفارسي، وتذهب إلى أن العداء قديم ومستحكم وأزلي، ولا يمكن الوصول إلى نقاط اتفاق، لو حدثت، إلا تكتيكيًا فقط، لتنويم مشاعر الحذر العربي وبشكل مخادع، وستنقلب إيران على أي تفاهم بعد فترة، عندما ترى أن من مصالحها أن تفعل ذلك. أما القراءة الثالثة، فهي التي ترى أن إيران، الدولة الحالية، تدفعها هواجس (ربما لا إرادية) من جانبين، الأول، هاجس الإطاحة الأمريكية - الغربية بالحكم الوطني في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، حكم مصدق، وهو هاجس يعتقد كثير من أصحاب القرار في إيران اليوم أنه يمكن أن يتكرر، أما الهاجس الآخر، وهو المسكوت عنه، فإن له علاقة بشكل نظام الحكم الذي أقيم بعد الإطاحة بالنظام الشاهنشاهي في عام 1979، وهو نظام هجين ومركب من رجال الدين في الصدارة، يخدمهم بعض التكنوقراط الذين تعلموا في الغرب، قد يكون لهم وجهة نظر فيما يدور، ولكن لا يجرؤون على إشهارها، ويعرف الجميع أن مثل هذا النظام، ولو حقق بعض الانتصارات والتوسع، هو نظام (لا تاريخي)، بمعنى أن استمراره بهذه الخلطة المزدوجة من خيوط سماكتها مختلفة، كإقامة مؤسسات شبه حديثة، وتعليم شبه حديث، ولكن في الوقت نفسه تحكم قدري يقرب إلى الخرافة، وحرمان حقيقي وواضح من أدنى أشكال الحريات التي يمكن أن تساير العالم الحديث، ويسود في اقتصادها فساد ضرب رقمًا قياسيًا على المستوى العالمي، وتصل نسبة الشباب العاطل فيها ثلث مجموعهم، وتتدنى مستوياتها الائتمانية دوليًا، مثل هذا النظام التسلطي لا ينتج نسيجًا منسجمًا، ولا يحمل قدرة على الاستمرار، بل يحمل في أحشائه دماره من داخله. القراءة الأخيرة هي أقرب إلى التحليل المنطقي والعقلاني. في القراءتين الأولى والثانية تتجلى (العاطفة)، إما من خلال دفن كل التناقضات تحت السجادة والقول بأن (ما هو موجود مفروض)، أو استدعاء التاريخ القديم في القراءة الثانية بكل ما يحمل من سلبيات وتوظيفه لاستنهاض الحشد ضده على أساس (ما هو موجود مرفوض). وأرى أن القراءتين، الأولى والثانية، يشوبهما عوار منطقي وتحليلي واضح. الإيرانيون اليوم هم ليسوا (جنود كسرى) كما أنهم ليسوا (بابا نويل)، كما لا يحمل الإيطاليون اليوم سمات الرومان، لا يحمل الإيرانيون المعاصرون سمات الفرس، كما أن إيران اليوم تشهد صراعًا داخليًا، بعضه معلن، وبعضه خفي، وهو على درجتين على الأقل، المعلن هو بين إصلاحيين وتقليديين، هذا الصراع مختلف على التفاصيل لا الأصول، أما الصراع الأهم فسيأتي بين الحداثيين وبين الدينيين (إصلاحيين وتقليديين)، يدفعه إلى السطح فساد مالي، واضطراب اقتصادي، وقمع اجتماعي. الصراع الأول يدعو إلى تحسين الصورة التي تظهر بها الجمهورية في أعين الخارج، مع الإبقاء على ثوابت الحكم، والآخر يسعى إلى تغيير النظام، إلا أنه لا بد من التفكير في أن الصراع الثاني لن يؤثر عمليًا، إلا بعد ذهاب الجيل الذي شهد الثورة، وشهدت بعض عناصره حكم الشاه، ورسخ في ذهنهم عميقا (عقدة مصدق)، أي أننا أمام احتمال (إدارة الصراع لثلاثة عقود قادمة على الأقل) مع إيران، لا إنهائه، يمكن أن نشهد فيها مفاجآت غير محسوبة وغير سارة ناتجة من آثار هذا الصراع بين (أهل الحكم الحالي) تقليديين وإصلاحيين، خاصة من جهة استنفار الفواعل غير الرسمية في ثنايا مجتمعاتنا، على طريقة حزب الله اللبناني، هذا الصراع هو (أخبار غير سارة) للخليجيين على الأقل، لأن المتشددين سينقلون الصراع الداخلي من إيران إلى الجوار في محاولة لإبراز تفوقهم ودفاعهم عن المصالح الإيرانية، وهي مصالح لم تحقق غير تقسيم الدول العربية التي تدخلت فيها، فلا العراق أو سوريا ستحكم بوصفها دولة مركزية في المستقبل، وتصل شكوكي حتى لبنان. ستظهر لنا الأحداث أن رهان إدارة الرئيس باراك أوباما على تغير في توجهات الجيل الحاكم في إيران هي مراهنة غير حصيفة، أي أن فكرة الانفتاح الإيراني على الغرب الذي سيخلق في وقت ما طبقة وسطى تسعى إلى الاستثمار في الغرب، وبالتالي يتغير النظام تدريجيًا إلى بلد طبيعي، تلك الفكرة نظرية أكثر مما لها على الأرض من شواهد، الدلائل واضحة تتلخص في قول المرشد الأعلى قبل أيام (الصواريخ أهم من الحوار) وحديث محمد علي جعفرى، القائد العام لقوات الحرس الثوري، حيث مما قال (مجتمع الثورة الإسلامية أصبح اليوم دوليًا...)، وهدد الجوار بأكثر الكلمات وضوحًا، وعديد من التصريحات العلنية المماثلة. كما أسلفت، الأمر يحتاج إلى أن ينتهي دور الجيل الذي حضر شطط الشاه، ويخاف من مصيره في الوقت نفسه. حتى يذهب هذا الجيل لن يكون هناك انفراج حقيقي لهذا التوتر الذي يحيط بنا. بقي أمر آخر في رقصة الفالس تلك، وهي أن هناك أوهامًا يراها البعض، أن إيران قوة عسكرية حقيقية، ولكن ما إن جربت حتى فشلت، فقد فشلت في سوريا، مما اضطر النظام السوري بعد أربع سنوات من المساعدات الإيرانية العسكرية في حرب قوات غير نظامية، إلى اللجوء إلى قوة أكبر هي روسيا، كما فشلت في العراق الذي يعاني تمزقًا لا يستطيع البلسم الإيراني أن يشفيه، وسقطت ثاني مدن العراق أمام أعين (القوة الإيرانية) في أربع ساعات! كل هذا الضجيج الإيراني في الجوار يعتمد على شكل من استقلال فروق الهوية التي تحركها طهران، وأوهام القوة، وكلاهما يمكن أن تزعج ويعطل، ولكن لا تستطيع أن تحقق نصرًا. وعلى الجميع أن يحوط نفسه، الأخذ بالأحوط والأفضل، من رسم استراتيجية تقرأ الشواهد بعلمية، وتعمل على خلق أدوات مضادة تتعامل مع التهديد في المدى المنظور! آخر الكلام: للمرة الثالثة، خلال أشهر تصادر البحرية الأمريكية في الخليج شحنة سلاح إيراني موجهة إلى الحوثي!! عن الشرق الأوسط
مشاركة :