أوهام الثورة ومستقبل الربيع العربي - مـحـمـد بن علي الـمـحـمـود

  • 1/9/2014
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

بعد اختلاف مسارات ما يُسمى ب (الربيع العربي) في أكثر من بلد عربي، أصبح الوعي العربي يعي حجم الاختلاف بين أقطاره التي لم تتفاعل مع موجة الغضب ومتتاليتها بمستوى واحد، ولا استقرت على وتيرة واحدة. وهذا يعني أن هناك فوارق نوعية بين كل بلد عربي وآخر بعد ثلاث سنوات من تلك المسيرة المُحبطة لما سُمّي ب( الربيع العربي)؛ تجاسر كثيرون، وبعضهم ممن سبق واحتفى به حدّ الهوس، فأطلقوا عليه الوصف الضدي المقابل: (الخريف العربي)، على اعتبار أنه الفصل السياسي الذي لم يثمر في نظرهم إلا الحروب الأهلية، والتمزق الاجتماعي، والتناحر السياسي، وسيادة منطق الفوضى، واستشراء كل ذلك في مكان تشرق فيه شمس هذا الخريف/ الربيع. هذا التردد/ التراجع يشي بجدلية تحليلية تُراوح بين الإحباط والأمل في سياق مُقاربة هذه الأحداث المتلاحقة التي كانت في جوهرها تمردا مشروعا على الاستبداد السياسي الذي طَبَعَ بدرجات متفاوتة أنظمةَ الحكم في هذا العالم العربي المتحرر قريبا من نير الاستعمار؛ ليجد نفسه واقعا في قبضة ثقافته المتخمة برؤى الاستبداد، ومن ثم ليجد نفسه في محرقة الاستبداد. لم يتساءل الغاضبون إبان فورة الغضب : هل الأنظمة المُستبدّة التي ثارت/ غضبت عليها شعوب دول (الربيع العربي) هي التي تُنتج ثقافة الاستبداد وتُمَوْضِعها في الواقع، أم هي مجرد ضحية، كونها من نتاج هذه الثقافة، أي لا تعدو أن تكون نتاج ثقافة مستبدة تضرب في أعماق الوعي الاجتماعي العام؟ أيا كانت الإجابة على مثل هذا السؤال؛ فمما لا شك فيه أن الأنظمة المستبدة أنتجت واقعا كارثيا محبطا للجماهير إلى أقصى درجات الاحباط. ولكن، هناك يقين بات لا يقل عن هذا اليقين وضوحا، وهو أن موجات الغضب بعد أن تسنّمت السلطة لم تستطع حلّ المعضلة الاستبدادية، كما لم تستطع حل المعضلة التنموية التي هي محور التحدي، بل وربما كانت بشكل مباشر أو غير مباشر مسؤولة عن معظم صور التّردي المتلاحق الذي ساد الأوضاع على اختلاف ميادينها ، وأصبح طابعا عاما في كل الدول التي اجتاحتها موجات الغضب الربيعية/ الخريفية التي توهمها كثيرون أوثق عُرى الآمال. هناك الواقع، وهناك المُتوقّع المشروط بإمكانات الواقع، وهناك الآمال المُحلقة في الفضاء اللامحدود. الواقع مؤلم وقاسٍ في كل دول الربيع. والمتوقع، بناء على ضوء إمكانات هذا الواقع، لن يكون أحسن حالا من الواقع الراهن. أما الآمال فقد كانت طوباوية، واتسعت بحجم الفضاء الكوني في بعض الأحيان، ولكن الواقع حاصرها بحقائقه المؤلمة؛ فتآكلت إلى أن أصبحت على درجة من الهُزال المَرضي الذي يقف بها على شفا الهلاك. أقسى صور الإحباط تتمثل في أن تعود دول الربيع بعد ثلاث سنوات كاملة من الغضب الاحتجاجي المناهض للاستبداد وذيوله هابطة إلى ما دون المربع الأول؛ فتتمنى الغالبية العظمى من جماهير الغضب عودة الاستبداد السابق بعد أن كانت تراه جحيما لا يُطاق. إنها دوّامة يأس لا تبتلع الأحلام فحسب، وإنما تبتلع أيضا إرادة التغيير، مع ما بقي من أحلام تائهة متسكّعة على رصيف المجاعة السياسية، بعد أن قدّمت الفعل (= الاحتجاج الغاضب) على الرؤية، فلم تكن النتيجة أكثر من تَخْريف (= تحويله إلى خريف) للربيع؛ لتدخل بعده في فصل شتاء قارسٍ، وقاسٍ على أحلام العربي المسحوق بدرجة قسوة الشتاء الذي يعربد اليوم في مخيمات اللاجئين الهاربين من ويلات الربيع! لم تُنْجز الاحتجاجات الغاضبة (= ثورات الربيع!) وُعودها، ولم تُحقق شيئا من طموحات جماهيرها. هذه حقيقة بسيطة وواضحة، حقيقة تَسُدّ أفق المرئي من هذا الفضاء السياسي الفسيح. وأقول: أفق المرئي؛ لأنه هو المهم في هذا السياق، فالجماهيري البسيط، وهو الذي بَات يُشكّل محور اهتمام الرهانات السياسية، مشدود بكل قواه العقلية والعضلية إلى المرئي، بل وإلى الآني المباشر، ولا يهمه ما وراء ذلك مما لا يستطيع استيعابه، أو حتى مما يستطيع استيعابه ولكنه يبقى خارج دائرة الاهتمام. سنكون محبطيين غاية الإحباط إن تساوقنا مع هذه الرؤية الآنية المباشرة، ورأينا الواقع والممكن على ضوء الأحداث المتلاحقة في حدود انعكاساتها المباشرة. إن الأمل إن كان ثمة من أمل لا يأتي من معطيات الحدث الواقعي، بل ولا يأتي من خلال معايير الهيمنة السلطوية التي تُوحي بها معادلات القوة (والقوة هي منطق السياسة) التي لا تتحكم في مسارات الفعل السياسي فحسب، وإنما في مسارات تشكيل الوعي السياسي أيضا. إذا كانت مُقارباتنا لإمكانات الغضب الاحتجاجي لا تتجاوز سقف الوقائع وانعكاساتها الذهنية المباشرة، فلا شك أننا سنكون محبطين أشد ما يكون الإحباط. ولكن إذا قاربنا كل وقائع هذه المرحلة الغضبية/ الاحتجاجية بوصفها حلقة أولى من حلقات النضال التحرري (حلقة قد تمتد لعقود!)، فلا شك أننا سنرى بصيصا من الأمل في آخر هذا النفق المظلم. فنحن يمكن أن نتفاءل بما يحدث رغم كل ما فيه من مآسٍ ؛ إذا تم تحديد وضعية هذه الموجة الغضبية كضرورة مرحلية تسبق الثورة الحقيقية، أي كحراك يستنهض الوعي ليعترف هذا الوعي بأن ثمة مشكلة تستحق الاهتمام الحقيقي الذي يتجاوز الاستعداد للتضحية الفدائية إلى الاستعداد للتضحية بالحياة في سبيل الحياة من خلال العمل الدؤوب على إنعاش الوعي السياسي، وتثويره بغية إخراجه من سباته التاريخي الذي نام فيه على شعارات النضال القومي، دون أن يكون معنيا بشعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. للبحث وسط هذه المحبطات عن أمل، عن بصيص ضوء، نستطيع أن نؤكد دون أن ننفي مشروعية وجهات النظر الأخرى على حقيقة أن هذه الاحتجاجات الغاضبة فعّلت الوعي العربي في مسائل كثيرة لم يكن يتطرق إليها من قبل، ولعل أهمّها يتّضح ما يلي: 1 الوعي العربي بات يدرك في عمومه أن جماهيريته قادرة على الفعل، ومن ثم فهو قادر من خلالها على أن يعمل أي شيء يريد عمله بصرف النظر عن أثره، أي هو قادر على التغيير بصرف النظر عن طبيعة هذا التغيير، حتى ولو كان تغييرا في سبيل التدمير. المهم أنه أحس بنفسه فاعلا بعد أن مكث قرونا وهو لا يتصور نفسه إلا موضوع فعل. كانت حالته حالة استسلام تام ل (القدر الاستبدادي)، بحيث اعتقد أنه لا يستطيع معه حَوْلا ولا طَوْلا، وأن تخفيف أو تثقيل حِدّة الضغط الاستبدادي هي عملية مرهونة بإرادة المُستبد وحده، ولا أثر لإراته هو (= الجماهيري) في حَلْحلة مداميك الاستبداد، بل ما عليه إلا أن يسمع ويطيع ويبتلع كل ما يجتاحه من انتهاكات السلطة الاستبدادية الغاشمة في استسلام تام. 2 الانعتاق من أسر (حالة الاستسلام) طرح مسألة مقاومة الاستبداد على طاولة الفكر وعلى طاولة الفعل في آن. المقاومة وكنتيجة طبيعة لرفض الاستسلام فرضت متتالياتها على مستوى الفعل، وكانت هذه المتتاليات مليئة بالمفاجآت التي لم تكن إيجابية في كثير من الأحيان. ومن هنا وقف الفكر ليُعاينها في تمظهرها الواقعي. وبهذا انتقلت المقاومة من كونها حدثا طارئا إلى واقعة يُراد تأبيدها. وإذا كان تأبيدها لا يتأتّى إلا من خلال شرعنتها بشتى وسائل الشرعنة السائدة اجتماعيا، فقد تم طرح أسئلة أخرى متفرعة على سؤال مشروعية المقاومة، حيث تم طرح سؤال المشروعية لا بالنظر إلى الاتساق مع المبادئ الدينية والاجتماعية فحسب، وإنما بالنظر إلى العوائد العملية الإيجابية المتوقعة من فعل المقاومة أيضا. 3 بناء على أسئلة المقاومة، تلك التي تتناول مشروعيتها، وطبيعتها، ووسائلها، يأتي سؤال مشروعية السلطة السياسية، سؤاء تلك التي تُقاوم (= السلطة الراهنة)، أو تلك التي يُراد إحلالها كبديل (= السلطة المنتظرة). ومع أن سؤال مشروعية السطلة يجب أن يسبق نظريا سؤال المقاومة، إلا أن الحالة العربية كحالة غضب سبق فيها الفعل العاطفي كل أفعال التفكير تأخر فيها سؤال مشروعية السلطة، تأخر من حيث تناوله على مستوى الوعي الجماهيري، وإلا فقد كان من قبل سؤالا مُقدما على مستوى الجدليات الفكرية ذات الطابع النخبوي. 4 من رَحِم سؤال مشروعية المقاومة خرج سؤال مشروعية التمثيل الجماهيري، فسمعنا ذلك الجدل الحائر بين القوى الغَضَبية / الاحتجاجية / الثورية، والمتمثل في النزاع بين مَشروعِيّتين: مشروعية البرلمان ومشروعية الميدان. وهو نزاع يمس مفاصل الرؤية الديمقراطية التي لم تتبلور بعد في الوعي العربي، وتتفرع عنه أسئلة لم ولن تحسم في هذا السياق الفوضوي الذي يتراجع فيه الجميع عن الاحتكام إلى كُلّيات الرؤية السياسية، مُفضّلين عليها النزعات الوجدانية التي تقود إلى الاصطفاف وفق ما يتوقعه كل فريق من عوائد نفعيه من هذا المبدأ السياسي أو ذاك. كل هذا الجدل وما يتعالق معه جدل إيجابي رغم عبثيته أحيانا، إذ هو تفعيل لمسيرة السؤال السياسي الذي لم يكن حاضرا في فترة الاستسلام السياسي، تلك الفترة التي كان المواطن فيها منفيا خارج دائرة الفعاليات العامة، ولم يكن له أي إسهام ولو على مستوى التفكير المجرد، فما بالك بالإرادة والفعل! 5 وهنا تأتي مسألة العنف، العنف من حيث مشروعيته، ومن حيث جدواه. صحيح أن مسألة العنف كانت مطروحة من قبل أن تطفو على السطح موجة الاحتجاج الغاضب، حيث تناولتها كثير من الدراسات الفكرية والسياسية والسيكولوجية المعنية بسؤال السلطة. لكن، مسألة العنف الصادر من الجماهير المقاومة للاستبداد، والمُوجّه إلى السلطة، لم تنل حظها من الاهتمام، خاصة وأن الجماهير لم يسبق أن مارست عنف الرفض على هذا النحو الذي يضطهد ويطارد رموز السلطة في تجلياتها العنفية في الواقع. ما يعني أنه عنف يدرأ عنفا، أو عنف ينتقم من عنف، أو عنف من أجل تغيير ضروري لا يتم التغيير إلا به. إذا كان الأمر كذلك، فمَن يُحدد مشروعيته في كل ذلك، هل هم القائمون به، والذين هم بطبيعة موقعهم منه يُشرعنونه، أم السلطة التي هي موضوعه، والتي تُدينه من حيث هو عمل ينتهك هيبتها، وربما يتهددها في وجودها، أم الأطراف الأخرى التي يُفترض فيها الحياد في مسألة لا تقبل الحياد، أم هو طرف خارجي يبدو تدخله وكأنه انتهاك للسيادة الوطنية. وهنا تأتي مسألة حدود فاعلية الدور الخارجي في التغيير الداخلي، وهل له نصيب في بلورة المشروعية السياسية، تلك المشروعية التي يستحيل أن تنفصل تماما عن موقف الرأي العام الدولي المتمثل في مؤسساته الكبرى التي لا يمكن لأي أحد تجاهل أثرها سلبا وإيجابا على أرض الواقع لأي كيان سياسي في عالم اليوم. استنادا إلى ما سبق، لم يعد العنف عنف السلطة فحسب، وإنما أصبح عنف المقاومة أيضا. وكما يتم طرح سؤال المشروعية على هذا؛ يتم طرحه على ذاك. ولا يعني هنا تساوي المشروعية، ولا تبرير ما ينتج عنها، وإنما المقصود أن كلا طرفي الصراع بات موضوعا على مشرحة التساؤل النقدي/ الإنساني الذي بات لا يفصل إشكالية العنف عن إشكالية الجدوى التي لا يجوز تحريرها من خلال الارتهان إلى حسابات اللحظة الراهنة، بل لا بد من توسيع نطاقها لتتسع إلى حيث فضاء الفعل التاريخي الذي قد يتمدد على مدى أجيال. 6 المتغيرات السياسية التي حايثت موجة الاحتجاجات الغاضبة، وتلك التي صنعها واقع الانتصار أو واقع التأزم، طرحت إشكالية العلاقة بين طوائف المحتجين الغاضبين كما لم يكن مطروحا من قبل. فعلاقة المسلم بالمسيحي، والسني بالشيعي، والإسلامي المؤدلج بالمسلم الليبرالي، والقومي بالأممي، فضلا عن علاقة الأقليات بالأكثرية، ومسألة موقع الأقليات من كل هذه المتغيرات، كل هذه مسائل أصبحت على صفيح ساخن من الجدل الفكري/ السياسي الذي أصبح يُعيد إلى السطح كثيرا من المكبوت السياسي والديني والاجتماعي، ويفتح أضابير المسكوت عنه بقوة دفع المتغيرات الواقعية التي باتت تفرض نفسها على كل مسارات تشكيل الوعي السياسي الراهن. 7 بعد اختلاف مسارات ما يُسمى ب (الربيع العربي) في أكثر من بلد عربي، أصبح الوعي العربي يعي حجم الاختلاف بين أقطاره التي لم تتفاعل مع موجة الغضب ومتتاليتها بمستوى واحد، ولا استقرت على وتيرة واحدة. وهذا يعني أن هناك فوارق نوعية بين كل بلد عربي وآخر. فمع أن كل موجات الغضب لم تكن إلا غضبا على واقع استبدادي، واقع تكاد دول الربيع تتماثل فيه، إلا أن ما نتج عن هذا الغضب لم يكن متماثلا. وهذا يعني أن التنظير السياسي الذي اعتاد عليه كثير من المفكرين العرب، والذي كان يأخذ المسألة السياسية العربية ككتلة واحدة، لن يصبح مُجديا في معالجة الواقع السياسي، فما يصلح لمصر قد لا يصلح لسورية، وما يصلح لسورية قد لا يصلح لليمن. فليس تماثل أولا تطابق الممارسات السلطوية في العالم العربي يعكس تماثلا أو تطابقا في المكونات الاجتماعية التي بات من الواضح أنها تختلف وتتباين بأكثر مما تتفق وتتماثل. 8 اتضح أيضا أن الوقائع الاحتجاجية/ الثورية كثيرا ما تسير بقوة الدفع الذاتي، وأنها كفعالية احتجاجية لا تستطيع تحديد خياراتها على نحو واضح، بل في أغلب الوقائع رأينا يكف أفلت الزمام من يد من اجترح الحدث. وقد أصبح هذا الملمح واضحا إلى درجة أن المفاجآت لا تزال تصدم كثيرين، وتعيد معظم المُحللين إلى مراجعة أنفسهم في كثير مما يتوقعونه. وهذا يؤكد للوعي العربي أن من يمتلك إرادة التغيير لا يمتلك بالضرورة القدرة على التحكم في مسارات هذا التغيير. فكثير من المؤثرات الداخلية والخارجية للدول المعنية لم تكن هي التي جرى رسمها في الأيام الأولى لإطلاق شرارة التمرد المدني، والذي كان لا يهدف لأكثر من إسقاط الاستبداد/ إسقاط النظام. إن كل هذه الدروس التي بات الوعي العربي يتتلمذ عليها بقوة عنف اللحظة، لم تأت إلا بثمن باهض، ثمن تم دفعه، وثمن لا يزال يُدفع حتى هذه اللحظة، وهو في كلا الحالين ثمن مستنزف من حيوات ملايين البشر الذين يدفعون فاتورة تَغْيير لم يتوقعوا مساراته، مثلما أنهم لم يتوقعوا أنه بهذا الثمن الذي يقصم الأعمار. ومن المؤكد اليوم أنهم باتوا يدركون أكثر من أي وقت مضى أن ثمار هذه التضحيات الهائلة، والتي قد تبدو الآن عبثية، لن يقطفوا بأنفسهم ثمارها، وأن ثمة أجيالا وأجيالا ستستوعب درس الحرية من خلال استيعابها لثمنه الباهض الذي تنشأ على مخاضه. هذه الأجيال ستبني على هذه الدروس التي ستأخذ طريقها إلى العقل الجمعي مشاريعها التي تضع الإنسان والإنسان أولا على قائمة الاهتمام.

مشاركة :