دمشق - استخدم المؤلف عبدالرحيم كمال، عبارة «أباطيل وأبطال من وحي التاريخ»، ليصف بها الحالة المسيطرة على مسلسل وطائفة الحشاشين. وهو في هذا يحدد الهدف المراد من عمله الموسوم بـ”الحشاشين” وهو وضع المتاجرين بالدين تحت المجهر. وعلى الرغم من تعرض العمل لانتقادات طالت سرديته التاريخية، فقد أدرك صناع العمل هذا الأمر جيدا، مؤكدين أن العمل الدرامي ليس فيلما وثائقيا وليس وثيقة تاريخية، والتأريخ أساسا ليس من أهداف الدراما. لقد سعى صناع العمل إلى تجاهل السياق التاريخي وتقديم قراءة مقصودة للتاريخ كما أشرنا آنفا. لذلك يمكننا القول إن هذا العمل هو أقرب أن يكون فانتازيا مستوحاة من التاريخ، منسوبة لحقبة زمنية معينة. إذ استطاع الكاتب أن يقفز بالمتلقي ما بين ماض سحيق وحاضر في جو من الفانتازيا. وقد تعمد إبراز رابطة الصداقة التي جمعت عمر الخيام وحسن الصباح ونظام الملك، وهذا ما جعلنا نتساءل منذ البداية: إلى أي مدى ستبقى هذه الرابطة محافظة على قوتها، وهل ستتحول الصداقة إلى عداوات تحت مطرقة الصراع السياسي ومن سيثبت على عهد الصداقة حتى النهاية ؟! منذ الحلقة الأولى شكّل لقاء الأصدقاء الثلاثة نهاية هذه الرحلة لتبدأ بعدها رحلة الصراع والمواجهة، إذ اعتمد الكاتب على إسقاط الأقنعة عبر حوارات كاشفة، فالريبة والشك لم تفارقا نظام الملك تجاه صديقه الصباح، في حين كان الخيام في نظر نظام الملك إنسانا حرا، يريد أن يبقى حرا، وهو صاحب قلب حر والحر لا يخون. ومع تتالي حلقات المسلسل تبدأ الأقنعة بالسقوط فيظهر الصدام بين العقل والروح والسلطة الغاشمة. السيناريست عبدالرحيم كمال رسم لنا صورة جديدة للخيام من خلال وفائه وحبه وصداقته بعيدا عن الصورة النمطية له لقد تعمد الكاتب الربط بين الشخصيات التاريخية الثلاث: الخيّام والصبّاح ونظام الملك، على ما بينها من تباين في الرؤى، ما بين “رجل دين” يصك قوانينه الخاصة التي يدّعي أنها لإعلاء كلمة الحق، والثاني اختار عالم السياسة، والثالث اختار عالم الفن والحرية لتحقيق ما يصبو إليه. وهنا يحق لنا أن نسأل: ماذا أراد الكاتب من عمر الخيام؟ لم يتعامل الكاتب مع عمر الخيام على أساس العالم المفكر الذي تعرفه النخبة المثقفة بل على أساس الصديق كما أُريد له أن يكون. فقد جسّد الخيام في هذه العمل أسمى صور الوفاء والأخوة، إذ ظل طوال المسلسل يؤكد على هذه الرابطة دون انحياز لأي طرف من أصدقائه. فتراه يعاتب نظام الملك عند حبسه للصباح المتهم بمحاولة قتل الخليفة بقوله: “العهد تم خيانته، تابع الخيام” وما العبرة في ثلاثة تعاهدوا على الوفاء والأخوة واحد منهم قطع رأس الثاني وعلقها على رمح وعزم الثالث علي الفرجة والسعادة”. وقال لنظام الملك أن يذهب لأنه لن يستطيع أن يرى سعادة صديقه وهو يقتل صديقه الآخر. حتى بعد هروب الصباح واتخاذه قلعة “ألموت” معقلا له تراه يواجه سؤال نظام الملك: من خان أولا، أنا أم الصباح؟ قائلا بحزن: ليس مهما، المهم العهد تم خيانته. إنه يتحدث عن عهد الصداقة الذي انفصمت عراه بلا رجعة جراء السعي وراء تحقيق الرغبات على حساب المبادئ والعهود. لقد أخذت العلاقة بين الأصدقاء منحى آخر، فلكل أهدافه وغاياته التي توجهه وتصنع قدره ومصيره. وبرغم ذلك وجدنا الخيام يظل متسامحا، يرى أن التسامح هو اللبنة الأولى في بناء الصداقة، فلا يبدي انحيازه إلى أي طرف. فعندما سأله الملك عمن يمتلك الحق هو أم الصباح، كان رده: “نحن الثلاثة على باطل، أنا عبد خوفي وأنت عبد السلطة والصباح عبد نفسه، معركة خاسرة للثلاثة لا منتصر فيها”. ونلحظ بعد انقلاب الأوضاع في مسلسل “الحشاشين” بقتل حسن الصباح لصديقه القديم وعدوه الجديد نظام الملك، أن عمر الخيام أصيب بالصدمة لأن أحد صديقيه قتل صديقه الآخر. هنا يشعر الخيام أن الصداقة وهم زائف عايشه، لم يجد أمامه إلا أن يهيم على وجهه ساخرا من كل شيء حوله، بعدما رأى كيف أن السلطة، من مواقعها المختلفة، قد جعلت كلا من نظام الملك والصباح يتآمران لقتل بعضهما، أدرك أن للحياة وجها آخر، أجمل وأعذب، لا يراه إلا أولئك الذين يرون الناس أحرارا، يحبون دون إكراه، ويتكلمون دون خوف. وأمام هذا الواقع الجديد الذي يعيشه الخيام، يلجأ الكاتب إلى استحضار شخصية صهبان وكان قد استحضر قبلها شخصية زيد بن سيحون رفيق الصباح، وكلتا الشخصيتان من عالم الخيال وهذا ما أكده كاتب العمل بقوله: “أنا من اخترعت زيد بن سيحون وصهبان البلان لضرورات درامية”. لقد ارتبطت الشخصية الأولى بعمر الخيام بعد مقتل نظام الملك وهي شخصية صهبان، الخط الكوميدي الوحيد في المسلسل فلا هو ضمن السلاجقة ولا ينتمي للباطنية، إنما فرد من عامة الشعب، ولذلك انعكس ذلك على لغته فكانت سطحية بجانب لغة الخيام الشاعر دون أن يقع في التفاهة. ظهور مميز ظهور مميز شخصية صهبان كانت في الحقيقة انعكاسا لعمر الخيام بل هي الصورة التي يطمح لها الخيام، هذه الشخصية التي رافقت الخيام في رحلته لتكون داعما حقيقا له وتعويضا عن وهم الصداقة الذي عايشه من قبل، لا يفرق بينهما إلا الموت والتي كانت رمزا للوفاء والصداقة. على عكس شخصية زيد بن سيحون التي ارتبطت بحسن الصباح في وقت مبكر من البداية كمحاولة لإظهار طريقة تفكير الحشاشين، فقد كانت هذه الشخصية عونا له في جرائمه ومنها استمد قوته في البداية لكنها تدخل فيما بعد في صراع مع الصباح لتلقى حتفها على يديه. لقد لجأ الكاتب إلى اختراع ابن سيحون في محاولة منه لتعرية وفضح الصباح وجماعته. ولعل محاكمة ابن سيحون لم تكن في الحقيقة إلا محاكمة لحسن الصباح. لقد استطاعت هاتان الشخصيتان إبراز مدى الفارق بين شخصيتي الخيام في تعامله مع صهبان تعامل الصديق المحب وتعامل الصباح مع ابن سيحون القائم على الشك والخوف، فصهبان هو صديق في نظر الخيام أما ابن سيحون فهو في نظر الصباح تابع يسهل استبداله والتخلي عنه وقتما يشاء. لقد أراد الكاتب في هذا العمل مقابلة بين الخير وعالم المحبة المتمثل في عمر الخيام، وبين الشر الذي يجسده حسن الصباح، من خلال التركيز على جانب الصداقة في شخوص العمل، وهذا هو معيار النجاح. إن كاتب العمل عبدالرحيم كمال لم يسع لإعادة التاريخ فنيا بل هو ابتعد ابتعادا كبيرا عن السردية التاريخية إنما كان يدور حول فكرة المواجهة بين الخير والشر. لقد تعمد الكاتب جعل الخيام والصباح يسيران على خطين متوازيين لا يلتقيان، ومع ذلك نجدهما يلتقيان مرة أخرى، فقد قام الصباح بإرسال رسالة للخيام بمقره فى منطقة المرو، أبلغه فيها برغبته وشوقه إلى صاحبه الذي يتمنى تواجده معه خاصة مع علو شأنه بتلك الفترة، وأنه لم يعد ينقصه سوى الجلوس إلى صاحبه الشاعر والفيلسوف المجنون. نص الرسالة: “بسم الله الرحمن الرحيم.. من قصر وسجن الصباح إلى صديقي ورفيق العمر عمر الخيام، بلغنا خروجك من أصفهان إلى المرو ..”. الكاتب في هذا العمل أراد مقابلة بين الخير وعالم المحبة المتمثل في عمر الخيام، وبين الشر الذي يجسده حسن الصباح، من خلال التركيز على جانب الصداقة في شخوص العمل الكاتب في هذا العمل أراد مقابلة بين الخير وعالم المحبة المتمثل في عمر الخيام، وبين الشر الذي يجسده حسن الصباح، من خلال التركيز على جانب الصداقة في شخوص العمل لقد حركت هذه الرسالة في داخل الخيام شيئا من أشواق الماضي جعلته يقرر الذهاب إلى صديقه القديم، لكن الخيام أصيب بالدهشة والارتباك مما وصل إليه الصباح في قلعة “ألموت”، ولاسيما بعد حضوره محاكمة الصباح لابنه ليتم قتله أمام أعين أمه وشقيقه نجل الصباح الآخر. لقد أدرك الخيام في هذه اللحظة أن الصباح لم يعد صديقه الذي عرفه فيما مضى بل هو رجل دموي لم يعد في داخله أي مكان للحب أو الصداقة. ففي أثناء حديثه مع صديقه الجديد صهبان، قال الخيام إن داخل حسن الصباح أكثر من شخصية، ويخاف من أن تكون الشخصية التي تحكم هي الشخصية المظلمة. لذلك يقرر الخيام مغادرة القلعة، فصاحبه في نظره قد مات، فالشخص المتمثل أمامه (أي حسن الصباح) لا يعرفه، وهذا ما أكده الخيام بقوله للصباح نفسه: كان لي صاحبان وقد قُتلا وأنت الذي قتلتهما، قتلت نظام الملك وقتلت حسن الصباح. لقد مثّل عمر الخيام الصوت في مواجهة تغييب الوعي والوهم الذي مثله حسن الصباح. وبرغم أنه لم يعد يحمل للصباح أي شعور بالود تراه يبقى محافظا على عهود الوفاء والأخوة، إذ يقع عمر الخيام في اختبار صعب، فبعد أن عاد إلى أصفهان مجددًا، يجد نفسه أمام مهمة رسم خريطة بها تفاصيل قلعة “ألموت”، حتى يتمكن الجيش المحاصر لها من القضاء على حسن الصباح وأتباعه. وتأتي صعوبة الاختبار بعد أن رفض الخيام بسبب مروءته أن يخبر الجيش المحاصر لقلعة ألموت عن أي تفاصيل بشأن الصباح أو القلعة. والخلاصة في رحلة الأصدقاء الثلاثة “الصباح” و”الخيام” و”نظام الملك” لا يوجد فيهما سوى الخيام الذي اختار طريق السلام من استمسك بمبادئه وحافظ على عهد الصداقة حتى النهاية وكسب نفسه ونجا بها على الرغْم من الإغراءات سواء كانت من “نظام الملك” بمكانة في الدولة أو من “حسن الصباح” بمكانة في القلعة ليكون هو من عرف قيمة الحياة من خلال الفن والحب. ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نثني على عمل الكاتب الذي أراد لنا أن نعايش التاريخ من منظور آخر. إذ استطاع أن يرسم لنا صورة جديدة للخيام من خلال وفائه وحبه وصداقته بعيدا عن الصورة النمطية له.
مشاركة :