لم تُنكِر أي من الأديان فطرة الشك لدى الإنسان، وهذه بالمناسبة إجابة على ما طرحه البعض حول ضرورة محاسبة الأستاذ الجامعي بدعوى جهره بشكوك يرونها غير مشروعة، وهو ما يدعو للتساؤل في مشروعية كل الشكوك، التي عبّر عنها علماء، وقادت إلى إنجازات خدمت البشرية، من غاليليو إلى نيوتن، ومن مارتن لوثر إلى ابن رشد. فماذا لو أن نيوتن مثلاً قد أكل التفاحة، التي سقطت الى جواره، وهو جالس تحت الشجرة؟ وماذا لو لم يتملّكه الشك في طريقة سقوطها، ولم يتساءل عن سبب سقوطها الى الأسفل بدلاً من الأعلى، لتأخذه خيالاته فيما بعد ويتساءل: «ماذا لو كانت الشجرة بارتفاع يصل الى مستوى القمر؟ ستسقط التفاحة في الاتجاه ذاته؟ ولكن هل يمكن أن يسقط القمر أيضاً نحو الأرض؟». من حسن حظ البشر أن نيوتن ساوره الشك حول سبب واتجاه سقوط التفاحة، وأنه لم يأكلها ويتجاهل حركة سقوطها، وإلا لما تم اكتشاف قانون الجاذبية، الذي يقول إن كل جزيء مكوّن من مادة يجذب كل الجزيئات الأخرى عن طريق قوة تتناسب تناسباً مباشراً مع كتلة الجزيئات، وتتناسب عكساً مع مربع المسافة بينهما، كان ذلك في نهاية القرن السابع عشر، إلى أن جاء فيما بعد أينشتاين في بدايات القرن العشرين، واستمد من نظرية نيوتن قانوناً جديداً للجاذبية، يقول بأنها - أي الجاذبية - ليست قوة، وإنما تحصل نتيجة اضطراب في البعد الرابع أو ما أطلق عليه «الزمكان». عالِمان ساهما في وضع إطار لقانون الجاذبية، أحدهما، نيوتن، اكتشفها صدفة ووصفها بالقوة، بينما رأى فيها أينشتاين، ومن خلال معادلات رياضية، مجال وانحناءات في الفراغ تسبّبها الكتلة. لو كان نيوتن إذاً قد أكل التفاحة، واكتفى بطعمها اللذيذ، لما تم اكتشاف مختلف الأجهزة الالكترونية، وأشعة الليزر والترانزستور، والخلايا الضوئية، وغير ذلك من علوم واكتشافات خدمت وتخدم البشرية كل يوم. إن الوجود الإنساني بأكمله رهن بالمعرفة لا بالجهل، وأساس المعرفة يبدأ من الشك، وليس من اليقين، وقد اصطدمت دائماً منهجية الشك عبر التاريخ البشري بثوابت مختلفة، منها ما يتعلق بالعقيدة، ومنها ما هو مرتبط بالثوابت الاجتماعية والفكرية، ومع ذلك فقد استطاع المفكرون، إسلاميون كانوا أم من أديان أخرى، أن يجدوا منفذاً لممارسة الشك فيما هو موجود وقائم بالفعل، فبينما كان شك ديكارت عميقاً، بحيث طال كل شيء، لجأ بعض الفلاسفة المسلمين الى فكر المعتزلة وعلم الكلام والباطنية لممارسة شكوكهم ضمن الضوابط الموجودة آنذاك. مارس بعض الفلاسفة الشك لأجل الشك، لكن أغلب العلماء مارسوا الشك لأجل المعرفة واليقين والعلم، ومن بينهما تبرز أهمية العقل في التمييز، وفي برهنة نقيض ما هو قائم، وكما حدث مع نيوتن، الذي لم يتوقف عن شكوكه في مسار التفاحة، وإنما ذهب به، وباستخدام عقله، ليُثري البشرية فيما بعد بقانون الجاذبية، لذلك فقد سعى الفلاسفة والعلماء معاً الى تمييز الشك المنهجي، الذي يستدعي بعض الحقائق ويستعين بها للبرهنة على الموضوع المشكوك به. لم يحجب الإسلام كعقيدة، ولا القرآن كنص، الشك عن قلوب المسلمين، فالآيات الكريمة تزخر بكلمات تحث على التدبّر، ففي صورة «ص» يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم «كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ» صدق الله العظيم. وتدبّر الآيات هنا يعني التأمّل فيها والتعمّق في فهمها والغوص في معانيها. كما وردت كلمة يتفكّرون في القرآن ثماني عشرة مرة، والتفكّر هنا ليس التفكير بل التبيّن وإمعان الفكر في الكلمة والمعنى. ففي سورة النحل يقول الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» صدق الله العظيم. أما إبراهيم، أبوالأنبياء، فقد توجّه بشكوكه الى الخالق مباشرة، حين قال، وكما ورد في سورة البقرة، بسم الله الرحمن الرحيم «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» صدق الله العظيم. الشك إذًا مفتاح المعرفة والعلم واليقين لا العكس، وكما يحاول البعض الترويج له بدعوى الذود عن الدين والعقيدة، فمن دون الشك لم يكن لنبي الله إبراهيم ليصل إلى اليقين المُطلَق، ولولا أن نيوتن شَكَّ في مسار التفاحة، لما حملنا جميعاً الموبايلات، واستخدمنا المايكروفون للمناداة للصلاة، واستمتعنا بهواء التكييف، وبكل ما تزخر به حياتنا من مزايا ونِعَم.
مشاركة :