مسلسل “الحشاشين” المصري مثل أبرز نموذج لقدرة القوة الناعمة على ضرب الأجندات السياسية المبنية على تزييف الحقائق التاريخية وصقل المشترك الديني بما يخدم الأهداف التوسعية الأشمل. القاهرة - عكس حظر المسلسل المصري “الحشاشين” في إيران قلق السلطات هناك من تنامي قدرات القوى العربية الناعمة على توظيف الثقافة والفن في الصراعات الإقليمية من خلال السعي للدفاع عن مصالحها وطرح رؤيتها الخاصة وروايتها الحقيقية للتاريخ والأحداث. وجاء قرار الحظر المُؤسس على ما وُصف بأنه تشويه لتاريخ طائفة الحشاشين الشيعية وزعيمها حسن الصباح التي قامت بأدوار دموية عبر عمل حركي منظم يزاوج بين السرية والعلنية في القرن الحادي عشر انطلاقا من بلاد فارس، في خضم مرحلة شهدت محاولات مستميتة من محور تتزعمه إيران لطرح نفسه دون الآخرين كمعبّر عن الرؤية الإسلامية من مدخل الدفاع عن قضايا وحقوق المسلمين. ويبدو أن السلطات في إيران نظرت إلى العمل الفني المصري الذي بُث في موسم رمضان الماضي وتلمس جذور الإرهاب والاغتيالات والعنف السياسي المُرتدي لثوب ديني لدى طائفة شيعية من القرون الوسطى، كونه موجها في الأساس لنفوذها السياسي الممتد في عدة عواصم عربية، والذي ارتدى عباءة الدين والدفاع عن الإسلام ووظف الفن لخدمته. إيران نظرت إلى العمل الفني الذي يلمس جذور العنف لدى طائفة شيعية كونه موجها لمحاصرة نفوذها السياسي وبررت طهران قرارها بأن العمل، الذي أثار جدلا واسعا وحظي بمستويات مشاهدة عالية، “يقدم صورة زائفة عن الإيرانيين ويسعى إلى ربط الإيرانيين بمولد الإرهاب”. وتُقرأ حمولات المسلسل ورسائله السياسية والفكرية من أكثر من زاوية، حيث يحرص على نفي اعتناق جماعة الإخوان ومن على شاكلتها لمفاهيم إسلامية صحيحة، رابطا إياها بنشأة الفرق الباطنية المتطرفة التي حرفت النصوص الدينية وصاغتها على مقاس مطامعها وأهواء زعمائها، ولذلك واجه المسلسل هجوما عنيفا مبكرا من الإخوان. وترتبط قراءة أخرى بحالة التدافع الحضاري المصاحبة للتنافس الإقليمي القائم، والتي اكتسبت زخما بعد التطور الذي شهدته المملكة العربية السعودية في مختلف المجالات، ومن ضمنها الفنون والثقافة، والعودة المصرية للعب الأدوار التي كانت تؤديها مؤسسة السينما في الستينات والسبعينات من القرن الماضي بإنتاج أعمال فنية تحمل رسائل سياسية وحضارية وتقوي مركز الدولة في الإقليم وتدافع عن توجهاتها. واكتسب مسلسل “الحشاشين” وهو من بطولة الفنان كريم عبدالعزيز، حمولات فكرية ورسائل سياسية في أكثر من اتجاه، تؤكد أهمية مضاعفة عرضه بعد مرحلة وظفت فيها إيران سلاح الفن والثقافة لغزو العالم العربي ثقافيا وخدمة مشروعها التوسعي. وحاولت طهران على مدار سنوات عبر الدراما طرح رؤيتها الخاصة للتاريخ والدين من خلال أعمال فنية تميزت بالجرأة والإنتاج الضخم، وأن توحي بأنها زعيمة العالم الإسلامي، وأن نظريتها الدينية والثورية هي الصحيحة التي يجب أن تسود. وساعدها في تحقيق بعض أهدافها الصدى الواسع الذي أحدثه إنتاجها الفني الذي عالج ملفات تاريخية ودينية إشكالية، وفي المقابل الصدمة المُروعة التي أحدثتها إصدارات تنظيم داعش المرئية، ما جعل البعض في الغرب يصدقون مزاعم طهران بشأن كونها تمثل حالة إسلامية حضارية مُنقِذة في مواجهة إسلام سني تكفيري وهمجي. اقرأ أيضا: • إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري وأضفى المُنتج الإعلامي لتنظيم داعش وتضمن أناشيد ووثائقيات مصداقية زائفة على الرواية الإيرانية، مؤداها أن العرب مخاصمون للحداثة وعاجزون عن النهوض بمشروع حضاري، ومصدرون للإرهاب والفكر التكفيري، ولا مفر من السيطرة عليهم بجهود قوى إقليمية غير عربية قادرة على عصرنة الحالة الإسلامية، وظهرت إيران وتركيا في الصورة. وسبق التصدي الفني والثقافي العربي للغزو والتمدد الإيراني المُعزز بإنتاج فني مصنوع خصيصا لمشروع التوسع، تصديه لغزو الدراما التركية التي خدمت أهداف العثمانية الجديدة وتلميع صورة القيادة التركية والترويج لها في صورة الفاتحين والسلاطين العثمانيين القدامى. وعالج مسلسل “ممالك النار” الذي عُرض عام 2019 حقبة احتلال العثمانيين لمصر بقيادة السلطان سليم الأول، وكشف العمل حقائق تاريخية متعلقة بدموية المحتل العثماني وأغراضه التي تتنافى مع ما رُوج له من فتح لمصر متمسحا بعباءة الدين، ما نبه الكثيرين ممن انبهروا بالدراما التركية التاريخية دون تنقيح ووقوف على الرؤى والروايات الناقدة لها. وكسر الإنتاج الفني المصري الذي تخصص في تفكيك إشكاليات وصراعات الواقع الحالي عبر التنقيب في جذورها التاريخية احتكار إيران وقبلها تركيا لطرح الرواية التاريخية للأحداث بما يخدم أهدافها التوسعية. وعكس الرواج الجماهيري الهائل لمسلسل “الحشاشين” القدرة المصرية على امتصاص الهجمات في ساحة القوى الناعمة وإضعاف تأثيرها على الجماهير بإنتاج مواز قوي، على النحو الذي جعل الحالة الثقافية والفنية المصرية داخل المسابقة الدولية الإعلامية الكبرى في العالم. وقلب المسلسل الذي خُصصت له ميزانية كبيرة الطاولة في وجه إيران وعموم تيار الإسلام السياسي، حيث ظل الرهان على استمرار الحالة الثقافية والفنية العربية على ما هي عليه منذ أكثر من عقد من تراخ وشبه استسلام، ما أغرى الطبقة الحاكمة بإيران على امتلاك المرونة والقدرة على الترويج لجاذبية نموذجها. واقتضت مجابهة الأيديولوجيات التكفيرية توظيف الفن والثقافة بشكل متقن واحترافي لمعاكسة تأثير الدراما الوافدة الموظفة لخدمة مشاريع إمبراطوريات توسعية وتعتمد على فصائل الإسلام السياسي السني والشيعي، ولكشف وتفكيك مناهج وأفكار الجماعات المتطرفة التي توظف الوسائل الحديثة في تجنيد عناصرها. نجاح مسلسل "الحشاشين" يشجع على تحقيق نهضة فنية شاملة تدفع بالفن المصري إلى سابق عهده ويسهم الإنتاج الدرامي والسينمائي المصري الذي يعالج قضايا وملفات إشكالية في ضبط معادلة التأثير الحضاري عالميا وليس فحسب على مستوى الإقليم، بالنظر للصورة النمطية التي رسمتها هوليوود للعرب عبر المئات من الأفلام، وهي شبيهة بتلك التي رسمها النازيون لليهود وتصويرهم كخطر محدق على ألمانيا قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. وبعد مرحلة ساد خلالها إسناد الشر والإرهاب إلى العرب وتكريس النظرة السلبية تجاههم وتصوير اليهود والغربيين والفرس والأتراك كمنقذين وحضاريين وموهوبين وشجعان، ينهض العرب لتحمّل مسؤوليتهم وسرد روايتهم، والدخول في تدافع عبر القوى الناعمة مع حضارات وثقافات أخرى. ويشجع نجاح مسلسل “الحشاشين” على تحقيق نهضة فنية شاملة تدفع بالفن المصري إلى سابق عهده، مستندا إلى الروح المصرية التي تملك وجدانا خاصا وتراثا ثقافيا ومعرفيا ثريا وملهما. ويحيي رواج أعمال فنية مصرية مشاريع قديمة حال دون تنفيذها عزوف المنتجين عن مثل هذه النوعية من الأعمال خوفا من فشلها جماهيريا، مثل مبادرة الأديب عبدالحميد جودة السحار الذي طرح فكرة تحويل التراث المسيحي والإسلامي إلى رؤى فنية. وبسبب الافتقار للتمويل وللمنتج صاحب القضية، لم يستكمل المخرج السوري الراحل مصطفى العقاد مشروعه الفني المخصص لإنتاج أعمال قادرة على تغيير قناعات العالم السابقة بشأن قضايا المسلمين الكبرى ولتقديم النموذج الأمثل للتعايش بين الغرب والإسلام، وإثبات عروبة فلسطين وحقوق شعبها في أراضه وثرواته ومقدساته وتقديم صورة إيجابية عن الإسلام. وكاد حلم العقاد يتحقق بإقامة مدينة إنتاج سينمائي أسماها هوليوود الإسلامية لصناعة فيلم سنويا عن مآثر العرب وتاريخ المسلمين، عندما تبرع العاهل المغربي السابق الملك الحسن الثاني بالأرض المناسبة للمشروع الضخم، لكن المشروع أجهض باغتيال العقاد في تفجير إرهابي بالأردن عام 2005. ولم تعد مشكلة التمويل عائقا اليوم، حيث تقف الدولة والكثير من مؤسساتها الفاعلة وشركات الإنتاج الوطنية خلف إنتاج فني مدروس بعناية للدفع به في حلبة التنافس والتدافع الحضاري وكسلاح متقدم لا غنى عنه في معارك التصدي لمشاريع التطرف والإرهاب والتوسع الطائفي والعرقي.
مشاركة :