الجامعة الريادية.. بناء المفهوم واستشراف المستقبل (2-2)

  • 5/1/2024
  • 21:30
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

  د. مسعود بن علي الحارثي alharthy_ma@hotmail.com   تناول الجزء الأول من المقال لمحة عامة حول مفهوم الجامعة الريادية؛ من حيث ماهيته، وأهميته، ومسوغات تبني هذا النمط الجديد في منظومة التعليم الجامعي. موضحًا بأن النهج الجديد يتصور حدوث تحول هيكلي في دور الجامعات؛ من مهامها التقليدية (التدريس، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع) إلى مهمة رابعة؛ تسويق المعرفة الجديدة من أجل التنمية المستدامة. واشار المقال إلى أن أهمية الجامعة الريادية تكمن في تزويد الطلاب بالأفكار والمهارات الإبداعية، والقدرة على التواصل الفاعل، واتخاذ المبادرات، وتحديد الفرص، والحل الإبداعي للمشكلات، والكفاءة الذاتية. ويركز الجزء الثاني من المقال، على مضامين فكرة الجامعة الريادية في السياق الوطني، مقدمًا بعض المقترحات لتعزيز هذا المفهوم. تعزيز مفهوم "الجامعة الريادية".. من منظور وطني يأتي "التعليم والتعلم والبحث العلمي والقدرات الوطنية"، ضمن أبرز أولويات "رؤية عمان 2040"، والتي من بين أهدافها: (أ) "بناء منظومة وطنية فاعلة للبحث العلمي والإبداع والابتكار تسهم في بناء اقتصاد المعرفة، و(ب) "نظام تعليمي يتسم بالجودة العالية والشراكة المجتمعية"، و(ج) "نظام متكامل ومستقل لحوكمة المنظومة التعليمية وتقييمها وفق المعايير الوطنية والعالمية"، و(د) "مصادر تمويل متنوعة ومستدامة للتعليم والبحث العلمي والابتكار"، و(هـ) "كفاءات وطنية ذات قدرات ومهارات ديناميكية منافسة محليًا وعالميًا". كذلك، تلتقي "الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040" مع أهداف "رؤية عمان 2040"، مؤكدة على أهمية جودة التعليم وجودة مخرجاته، وبناء القدرات الوطنية الفاعلة في البحث العلمي والإبداع والابتكار؛ باعتبارها الممكنات الحيوية، لبناء اقتصاد المعرفة. وعلى نحو مماثل، أوضح قانون التعليم العالي الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 27/2023، في المادة (3)، على جملة من أهداف التعليم العالي، والتي من بينها: (أ) بناء كفاءات وطنية متخصصة بمهارات وقدرات منافسة عالميًا، تلبي احتياجات المجتمع، وخطط التنمية، ومتطلبات سوق العمل، و(ب) تشجيع ودعم البحث العلمي والإبداع والابتكار بما يسهم في بناء اقتصاد المعرفة، و(ج) دعم التنوع في مجالات المعرفة المختلفة، وتطوير البرامج الدراسية بما يتواكب مع متطلبات التنمية المستدامة، والتقدم العلمي في مختلف المجالات، و(د) توفير البيئة التعليمية والتدريبية والبحثية الداعمة للإبداع والابتكار وإنتاج المعرفة وريادة الأعمال، بما يسهم في النهوض بالمجتمع ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، و(هـ) التطوير المستمر للمنظومة التعليمية، والبحث العلمي والابتكار لتكون ذات جودة عالية وبمعايير عالمية، و(و) تعزيز التعاون والشراكة المحلية والإقليمية، والدولية في مجالات تطوير المعرفة، والبحث العلمي والابتكار، و(ز) بناء نظام متكامل لحوكمة المنظومة التعليمية بما يضمن مرونتها وفاعليتها واستمرار تطورها وتقييمها وفق المعايير الوطنية والعالمية. وانسجامًا مع الجهود الوطنية نحو إيجاد منظومة تعنى بالموهوبين والمبدعين وأصحاب الأفكار الريادية، دشنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار في العام 2022م "برنامج مشاريع البحوث الاستراتيجية"، والذي ويهدف إلى: (أ) بناء القدرات الوطنية في البحث العلمي والابتكار، و(ب) تقديم حلول علمية وعملية، عبر مقترحات بحثية تنافسية تستهدف الأولويات الوطنية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية، و(ج) الإسهام في تعزيز التعاون الفاعل بين أطراف المنظومة البحثية والأكاديمية، والجهات الحكومية، ومؤسسات القطاع الخاص، و(د) تعزيز التميز البحثي، ورفع نسبة عدد الأبحاث في السلطنة وفق المعايير البحثية العالمية. النظام الجديد لجامعة السلطان قابوس وتأكيدًا على تعزيز مفهوم الجامعة الريادية وأبعاده التي تهدف إلى مواكبة المشهد العالمي في منظومة التعليم الجامعي، فقد تضمن "نظام جامعة السلطان قابوس" الجديد، والصادر بالمرسوم السلطاني السامي رقم (19/2024)، عددًا من المرتكزات المهمة التي تعكس توجهات الجامعة وتطلعاتها في المرحلة الحالية والمستقبلية، ومن بينها: (1) أن النظام يسهم في (أ) تفعيل أحكام النظام الأساسي للدولة المتعلقة بضمان استقلال الجامعات وتحقيق جودة التعليم بما يتحقق مع المعايير العالمية، وتشجيع البحث العلمي، و(ب) دعم الجهود الوطنية في تحقيق "رؤية عمان 2040 ". (2) تركزت أهداف الجامعة (14 هدفًا) في النظام الجديد، في محاور ثلاثة، وهي: (5) أهداف في مجال التعليم العالي، و(6) أهداف في مجال البحث العلمي والابتكار وريادة الأعمال والاستشارات، و(3) أهداف في مجال التعاون والشراكة، محليا وإقليميا وعالميا. وعليه، فإن النظام الجديد لجامعة السلطان قابوس يؤكد على: (1)     استقلال الجامعة أكاديميًا، وإداريًا، وماليا. (2)     تحقيق الاستدامة المالية وإيجاد مصادر تمويلية متنوعة من خلال: (أ) دعم توجهات الجامعة للتحول إلى النموذج الريادي للجامعات وتحويل المعرفة إلى منتجات لتعزيز الاقتصاد القائم على المعرفة عن طريق إنشاء الشركات والصناديق الاستثمارية في المجالات ذات الصلة بعمل الجامعة، و(ب) السماح بإنشاء أوقاف للجامعة وتخصيص جزء من أراضيها لهذه الأوقاف. (3)     تعزيز الحوكمة، والأداء المؤسسي، والمرونة التشريعية. (4) تشجيع البحث العلمي والابتكار وريادة الأعمال، وبما يمكنها من تحقيق التميز والمنافسة، وأداء دورها المجتمعي المنسجم مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة، (5) بناء الشراكات وتعزيز دور الجامعة في خدمة منتسبيها وخريجيها والمجتمع كافة. آليات الاستجابة لمرتكزات "الجامعة الريادية" ومحدداتها وعند التفكير في آليات استجابة مؤسسات التعليم العالي لأهداف رؤية عمان، والاستراتيجية الوطنية للتعليم، وقانون التعليم العالي، وهي في مضمونها موجهات مهمة وركائز داعمة لبناء "مفهوم الجامعة الريادية"، فإنه ينبغي أن تتعامل مع معادلة ثلاثية الأطراف وهي (أ) جودة التعليم، و(ب) التقدم العلمي والتكنولوجي، و(ج) الزمن. وبتبني هذه المعادلة على نحو يفرض عليها ضرورة وجود حالة من التغيير والتطور والتحديث، مما يدعوها، في ذات الوقت، إلى المراجعة والتقويم المستمرين لأنماطها، وأساليبها، من جهة، وتطوير تكويناتها التنظيمية، ووضع خطط استراتيجية تتوافق مع متطلبات العصر ومتغيراته، من جهة ثانية. فلا يمكن لمؤسسات التعليم العالي أن تكون منفصلة عن هذه التغيرات العالمية، أو أن تكون غير مواكبة لها، لتتمكن من تحقيق تميز أكاديمي مرموق، وجودة تعليمية عالية. وليس أدل من ذلك، السعي الجاد من جانب الجامعات في مختلف دول العالم لتأمين المتطلبات اللازمة للتوافق مع معايير التصنيف العالمي للجامعات، والتي أصبحت من المحركات المهمة التي تدفع بالجامعات نحو مزيد من العمل الجاد والمتواصل لرفع رصيدها الأكاديمي والبحثي. وأمام هذه المتغيرات السريعة والمتجددة في توجهات التعليم العالي العالمية، وسوق العمل، يصبح تكيف الجامعات مع هذه التحديات الجديدة أمرًا حتميًا؛ من خلال (أ) مراجعة تصميم المناهج، و(ب) رصد مجموعة المهارات اللازم توافرها في مخرجاتها، لتنسجم مع توجهات سوق العمل الحالية والمستقبلية، و(ج) تفعيل الوظيفة الثالثة للجامعات، بهدف تكوين وتطوير الاقتصاد والمجتمع القائم على المعرفة، وغيرها من المكونات الرئيسة، وهي جميعها عوامل حاسمة في قدرة هذه المؤسسات على الاستجابة الفاعلة لهذه المعطيات. مقترحات إجرائية لتعزيز مفهوم الجامعة الريادية وفيما يلي عددًا من المقترحات لتعزيز مفهوم الجامعة الريادية في مؤسسات التعليم الجامعي: 1. دعم الجامعات للابتكار، وتشجيعها البحوث العلمية القابلة للتطبيق والتنفيذ. 2. تطوير المناهج؛ بحيث تقدم تعليمًا قائمًا على توليد الأفكار والابتكار، وتعزيز التفكير الريادي لدى الطلاب. 3. تبني طرق التدريس الريادية، التي تركز على استثمار الأبحاث والأفكار، وبما يمكن الجامعة من أن تسهم في رفع التنافسية العالمية للسلطنة؛ والتي تسعى لتكون من أفضل 20 دولة في مؤشر التنافسية العالمية بحلول عام 2040. 4. بناء الشراكة الحقيقية المتوازنة مع أصحاب المصلحة من القطاعات العامة والخاصة، والتفاعل مع الشرائح المختلفة في المجتمع المحلي. 5. العمل على تسويق خدمات المجتمع الجامعية في مجال الاستشارات والأبحاث، ودعوة رجال الأعمال وغرف التجارة والصناعة للتعريف بالخدمات التي تقدمها. 6. تعزيز التواصل مع الجامعات العالمية المتقدمة في مجالات الابتكار وريادة الأعمال؛ لا سيما وأن الجهود الوطنية تسعى لتسريع وتيرة التقدم في مؤشر الابتكار العالمي لتكون السلطنة ضمن أفضل 40 دولة في الابتكار عالميًا، بحلول عام 2030.  7. دعم الأثر، وقياس مؤشرات الأداء، وذلك لأهميته في التحسين المستمر للعملية التعليمية، ومساعدة الجامعة على موائمة الأنشطة مع الأهداف الاستراتيجية وتحويل المعلومات إلى صيغة قابلة للقياس والتقييم والتقويم. 8. ترسيخ فكرة الاستدامة؛ باعتبارها أحد أهم المرتكزات لتعزيز مفهوم الجامعة الريادية؛ إذ يأتي التعليم الريادي في مقدمة الموضوعات التي تشكل الاستدامة فيه محورًا مهمًا؛ كونها تعكس أهمية الاستثمار في رأس المال الفكري، والذي، بلا شك، يعتمد تنميته داخل المجتمعات بشكل كبير على المؤسسات التعليمية والجامعات. الخلاصة.. في الوقت الذي تشهد فيه الجامعات اليوم تنافسية دولية كبيرة، وتحولًا سريعًا في سياق توسيع مهامها، بات من تطوير جودة التعليم هدفًا رئيسًا تسعى إليه المجتمعات؛ بهدف صناعة سياسات تعليمية ناجحة، تتطلب معه تأسيس توجه جديد يضمن الشراكة بين وحدات التعليم ومؤسساته، وبين قطاعات المجتمع ذات العلاقة كافة. والمتابع للمشهد العالمي للتعليم العالي، وخصوصًا الجامعات، يدرك أن التحول في أنظمة التعليم العالي ليس محصورًا في أدوارها فحسب؛ بل تشهد أيضًا تحولًا على نطاق واسع من حيث المفهوم والممارسة والتطبيق. وهناك إجماع عالمي متزايد على أن الجامعات في العالم، ومن منطلق مسؤولياتها تجاه مجتمعاتها، يمكن أن تلعب دورًا في النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية في "المجتمع القائم على المعرفة". وإذ إن مفهوم "الجامعة الريادية" أصبح، في وقتنا المعاصر، من المفاهيم الجديدة في عالم المنافسة والاستدامة، فإن المؤسسات الجامعية مطالبة بإيلائه قدرًا أكبر من حيث: (أ) دراسة ممكناته، و(ب) وآليات تطبيقه، و(ج) وضع تصور واضح بشأن الاهتمام بالموارد البشرية، باعتبارها الثروة الحقيقية لأفضل موجودات المؤسسة الجامعية حتى تصبح جامعة ريادية، قادرة على دعم وتحقيق مزايا تنافسية مستدامة. وفي الوقت الذي تنطلق فيه السلطنة إلى المستقبل برؤية طموحة، تؤسس لمرحلة جديدة لتطور منظومة التعليم الجامعي، ليسهم في دفع عجلة الاقتصاد والتنمية، ورفد سوق العمل بمخرجات ذات جودة عالية مؤهلة لعالم العمل محليًا وعالميًا، وبقدرات ومهارات منافسة، تلبي مستوى الإنتاجية والتنافسية المطلوبة لبناء اقتصاد المعرفة، وتحقيق التنمية المجتمعية المستدامة؛ يأتي الدور الحيوي لمؤسسات التعليم العالي، ولاسيما الجامعات، نحو إيجاد الأطر المناسبة للشراكة والتعاون والتكامل مع قطاعات العمل والصناعة. ولتحقيق ذلك، يمكن لهذه المؤسسات الاسترشاد بتجارب الجامعات المتقدمة، وإجراء دراسات مقارنة لأقرب النماذج إليها؛ للوقوف على مؤشرات التميز لديهم وخبراتهم في الارتقاء والتطور. كما يمكنها أيضًا إجراء المقارنات المرجعية الداخلية والخارجية بشكل دوري والاستفادة من النتائج في عملية التطوير.

مشاركة :