عرفت العدالة الجنائية الدولية تطوراً ملحوظاً مؤخراً، وتبدو الممارسة الدولية منذ مطلع القرن العشرين حافلة بحالات من المحاكمات الدولية للأفراد أمام هيئات قضائية خاصة، ففي عام 1945 تشكلت محكمة نورمبرغ بموجب اتفاقية موقعة بين كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفييتي، اختصت بالنظر في الجرائم المرتكبة التي ارتكبها الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، كما أنشئت في نفس السياق المحكمة العسكرية الدولية للشرق الأقصى في طوكيو سنة 1946، اختصت بمتابعة مجرمي الحرب اليابانيين، بالإضافة إلى المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا السابقة لسنة 1993 والمحكمة الجنائية لرواندا 1994 اللتين أحدثتا بموجب قرارين صادرين عن مجلس الأمن. وأمام تصاعد حدة الحروب والنزاعات الداخلية المسلحة وما خلفته من جرائم على امتداد مناطق مختلفة من العالم منذ مطلع التسعينات من القرن المنصرم، تعززت الخطابات والمطالب الدولية التي قادتها دول ومنظمات دولية غير حكومية التي دعت إلى ترسيخ عدالة جنائية دولية دائمة وأكثر صرامة مع الجرائم الخطرة التي ترتكب ضد الإنسانية ما مهّد الطريق أمام إحداث المحكمة الجنائية الدولية بناء على قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (50/46) في ديسمبر 1995. يمكن إجمال صلاحيات المحكمة في اختصاصات موضوعية مرتبطة بجرائم الإبادة الجماعية التي تحيل إلى القتل وإلحاق الضرر الخطر الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، والجرائم ضد الإنسانية المختلفة في علاقتها بالقتل والإبادة والاغتصاب والاستغلال الجنسي وغيرها من الجرائم الخطرة سواء ارتكبت في فترات السلم أو الحرب، وهناك جرائم الحرب المرتبطة بمختلف الأفعال الخطرة المنتهكة للقانون الدولي الإنساني التي تجسدها اتفاقيات جنيف، وهناك جريمة العدوان. ورغم الإقبال الدولي المكثف على الانضمام إلى نظام المحكمة، ما زالت أغلبية الدول العربية متردّدة في الانضمام إلى نظام المحكمة، حيث صادقت أربع دول فقط على نظام المحكمة، هي الأردن وجيبوتي (عام 2002)، وجزر القمر (عام 2006)، ثم تونس (عام 2011). تواجه المحكمة مجموعة من التحديات، بما يعرقل ترسيخ عدالة جنائية تمنع الإفلات من العقاب بصدد الجرائم الإنسانية الخطرة، بفعل عوامل مختلفة يتداخل فيها الذاتي والموضوعي. تتردد الكثير من البلدان في المصادقة على نظام المحكمة، مقدمة في ذلك ذرائع مختلفة، من قبيل التخوف من ممارسة المحكمة لتدخلات في سيادة الدول، خاصة وأن نظامها الأساسي يتضمن مجموعة من المقتضيات التي تتناقض مع مضامين دساتير بعض الدول، في علاقة ذلك برفض نظام المحكمة (المادة 27 من نظام المحكمة) للحصانات الممنوحة بموجب هذه الدساتير لبعض الأشخاص بصفتهم المدنية والعسكرية. علاوة على إمكانية إجراء تحقيقات فوق أراضي الدول، وطلب تسليم الأشخاص المتهمين بجرائم تندرج ضمن اختصاصات المحكمة، ورفض نظام المحكمة لممارسة حق العفو الذي يملكه رؤساء الدول، فيما يتعلق بالأشخاص الضالعين في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.. وينمّ هذا الرفض عن وجود التباس في استيعاب وفهم صلاحيات المحكمة، ذلك أن اختصاص المحكمة مكمّل للقضاء الداخلي وليس بديلاً عنه أو مصادراً له. حيث يمكن لتعزيز استقلالية القضاء وإعمال تدابير تدعم منع الإفلات من العقاب بصدد الجرائم المندرجة ضمن اختصاصات المحكمة أن يقطعا الطريق أمام تحرك هذه الأخيرة. كما أن المحكمة لا تملك الحق في متابعة وملاحقة الجناة المتورطين في الجرائم التي تختص بها، إلا إذا كانت الدولة التي ينتمي إليها المعني طرفاً في نظام المحكمة. أو إذا أحال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت بموجب المادة 13 من النظام الأساسي للمحكمة. وقد أثارت علاقة مجلس الأمن بالمحكمة الكثير من النقاش السياسي والأكاديمي، بين من ثمن هذه العلاقة انطلاقاً من المسؤوليات والصلاحيات الوازنة التي يتمتع بها المجلس على مستوى حفظ السلم والأمن الدوليين، تبعاً لمقتضيات الميثاق الأممي من جهة أولى، ودوره في إتاحة الفرصة للمحكمة للبتّ في جرائم بغض النظر عن جنسيات المتهمين أو محل ارتكاب الجريمة، وسواء تعلق الأمر بدولة طرف في نظام المحكمة أم لا، حيث ينتهي دوره في الإحالة، فيما تظل كلمة الفصل للمحكمة في الإدانة أو التبرئة، ومن رفض هذه العلاقة من منطلق تأثيرها المحتمل في استقلالية المحكمة، بالنظر إلى تشكيلة المجلس وخضوع قراراته لموازين القوة، وإلى الانحرافات التي تطبع الكثير من قراراته. drisslagrini@yahoo.fr
مشاركة :