رغم حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبراز محاسن كل الأخلاق الإسلامية، وبيان فضلها وتأثيرها الإيجابي على حياة الإنسان، حيث توفر له كل فرص الاستقرار والطمأنينة إلا أن خلق الرفق حظي بعناية خاصة في أفعال وأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان نموذجاً فريداً في الرفق واللين في التعامل مع الناس، حتى المخالفين والمتجاوزين لما أمر به الله، حيث كان يأخذهم بالرفق ويوضح لهم تجاوزاتهم باللين، وكان لأسلوبه الرحيم تأثير السحر في سلوك الجميع فلم يجد منهم عنادا أو إصرارا على الباطل، بل سرعان ما كانوا يعودون إلى الحق، ويلتزمون الطريق المستقيم، ويشهدون بصدق وعظمة الرسول الكريم. صور الرفق في سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحصى، وقد شملت الكبير والصغير، والطائع والعاصي، والقريب والبعيد، والعالم والجاهل، والعدو والصديق، والمخطئ في العبادة، والمخطئ في العادة. يروى أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليه رهط جماعة فوق الثلاثة ودون العشرة من اليهود فقالوا: السام عليكم والسام هو الموت قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله قالت عائشة: يا رسول الله، أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله: قد قلت وعليكم. وصايا نبوية ومن مظاهر رفقه صلوات الله وسلامه عليه: تفريج الكرب والتيسير على المعسر، وستر المسلم ومعاونته.. فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة. ومن مظاهر رفقه صلوات الله وسلامه عليه حثه على العطف على الحيوان والرفق به وتقديم الطعام له، وكلنا يعرف حديثه الشريف الذي يخبر فيه بدخول امرأة النار لحبسها قطة وعدم تقديم الطعام والشراب لها. ومن مظاهر رفقه أيضاً حثه على عيادة المريض، وإطعام الجائع وسقي الظمآن.. يقول صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا بن آدم، مرضت فلم تعدني، قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم، استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي. أيضاً.. تعددت وصاياه صلى الله عليه وسلم بالرفق، وبيان محاسنه، والتحذير من السلوك العنيف القاسي، ومن هذه الوصايا والتوجيهات ما نقلته لنا السيدة عائشة رضى الله عنها، حيث قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم: إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.. كما أخبرنا الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم الرفق فقد حرم حظه من الخير. وقال عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح رواه الإمام مسلم: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه. طريق إلى الجنة يقول د. عبد الفتاح العواري، عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر: الرفق خلق يرقى بالمسلم، ويهذب سلوكه، ويحقق له الخير، ويغرس محبته وقبوله في نفوس كل من يتعامل معه.. وقد شمل الأسلوب الرحيم للنبي صلى الله عليه وسلم كل مجالات الحياة، فقد جاء في صحيح البخاري قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب الرفق في الأمر كله.. ولهذا ينبغي على كل مسلم، بل على كل إنسان ذي عقل سليم أن يلتزم بالرفق مع كل مَنْ وما تحت يديه، فيرفق بأبويه وزوجه وأولاده وخدمه، ويكون رفيقا بمن تحت يديه في العمل، وبما سخره الله له من حيوانات، عطوفا على الضعفاء والمساكين، لينال ستر الله في الدنيا، ويحظى بدخول جنته في الآخرة.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي: ثلاث من كن فيه ستر الله عليه، وأدخله جنته: رفق بالضعيف، وشفقة على الوالدين، وإحسان إلى المملوك. والرفق كما يقول الدكتور محمد عبد الغني شامة في موسوعة المفاهيم الإسلامية، يرفع درجة صاحبه بين الناس بحيث تلهج ألسنتهم عند ذكره بالثناء عليه، والدعاء له، ومن سلب هذه الصفة، فسلك مع الناس سلوك العنف، وتعامل معهم بالشدة، صبوا عليه اللعنات، وجردوه في حديثهم من الإنسانية. لكن الرفق في التعامل مع المرؤوسين، ومع الأبناء، ومع التلاميذ وطلاب العلم، لا يعني التخلي عن الحزم المطلوب لحسن التربية، ولا يعني التخلي عن التأديب الواجب، لأن الخالق سبحانه وهو أرحم الراحمين هو الذي شرع التأديب اللازم. كما لا يعني الرفق أبدا التجاوز عن المعاصي والجرائم التي يرتكبها العصاة والمجرمون، لأن الله سبحانه وهو المثل الأعلى في الرفق والرحمة بعباده هو الذي شرع العقوبات لصيانة نفوس الناس، ولصيانة أموالهم وأعراضهم، ولو ترك الناس من دون حساب على جرائمهم وأخطائهم لعمت الفوضى، ولساد الفساد في الأرض. لذلك كان من الرفق والرحمة أن نربي الأطفال منذ الصغر على التزام مكارم الأخلاق، وعلى أداء الواجبات، ولو أدى ذلك إلى الشدة بهم في بعض المواطن، لأنهم لو تركوا وأهواءهم، لشبوا على اللهو واللعب، ولعاشوا لا يحسنون صنعا، فمن الرحمة بهم أن يعودوا على أداء الواجب. ثمار الرفق وإلى جانب المكافآت والحوافز الإلهية لمن يلتزم بخلق الرفق الذي تخلق به وحث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأجر الكبير والثواب الجزيل الذي وعد به الخالق في الآخرة، فإن الرفق له ثماره الكثيرة في الدنيا، فهو- كما يقول د. حسن خليل الباحث الشرعي بمشيخة الأزهر- يرفع درجة صاحبه بين الناس، ويضفي عليه وقارا واحتراما لا يتوفر لهؤلاء الذين يتوهمون أن العنف والقسوة تجلب لهم الهيبة وتفرض على الآخرين احترامهم.. فالإنسان الذي يتحلى بالرفق يفرض احترامه على الآخرين فيبادلونه الرفق، وتلهج ألسنتهم عند ذكره بالثناء عليه والدعاء له. ولا شك أن الرفق في العمل يؤدي به إلى النجاح والإتقان، والسلامة والأمان، وكلما حرص الإنسان على الرفق في قوله وعمله وفي سلوكه وسائر تصرفاته، أحرز النجاح وحقق مطالبه وطموحاته، فحظ الإنسان من الخير منوط بحظه من الرفق، وهذا ما وجهنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير.. وكما أن حظ الإنسان من الخير يكون على قدر حظه من الرفق، فكذلك حرمانه من الرفق، حرمان له من الخير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: من يحرم الرفق يحرم الخير. لقد دعانا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الرفق في كل الأمور، لاسيما مع من يكون جاهلا لا يدري ما يصنع، فالتعليم بالرفق يؤدي إلى حسن القبول، وإلى الأخذ بالنصح والتوجيه.. وجاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قام إعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء (وهو الدلو) فإنما بعثتم مبشرين ولم تبعثوا معسرين. تصحيح الأخطاء وهنا يتدخل الخبير التربوي د. صلاح عبد السميع، أستاذ التربية بجامعة حلوان، ليؤكد من جانبه أن العنف فوت علينا تحقيق الهدف الأسمى من المدارس وهو التربية الصحيحة للصغار، ويقول: اللوم الأكبر لا يقع على المدرسين، بل يقع على الآباء والأمهات الذين أوفدوا للمدارس أطفالاً أدمنوا العنف والإسفاف في سلوكهم اليومي، وكان من الطبيعي أن يواجه المدرسون يومياً بنماذج غريبة من عنف التلاميذ بعضهم مع بعض، وأحياناً ينال العنف بعض المدرسين، وقد شاهدنا جرائم عنف من تلاميذ ضد مدرسين انتهت نهايات مؤسفة. لكن مع ذلك يطالب د. عبد السميع كل المربين والمعلمين بتصحيح أخطاء البيوت التي لا تلتزم أصول التربية الصحيحة، ويقول: لا ينبغي أن نغفل في التربية عن معنى الرفق الذي رسخه في نفوسنا ديننا الإسلامي العظيم، وهذه مسؤولية الآباء والأمهات في البيوت، كما هي مسؤولية المعلمين والمربين في المدارس، ويجب على وسائل الإعلام أن تكف عن نشر أو إذاعة أية أعمال درامية تزين العنف في نظر الصغار، وهذه الأعمال الفنية الهابطة تتزايد للأسف في ظل انهيار القيم في مجال الفن.
مشاركة :