«لم ينته الدرس...» كتاب للمربية والأديبة التونسية «حسيبة صنديد قانوني» يُقرأ مضمونه من عنوانه، إذ لا تنتهي دروس الحياة ولا يتوقف واجب المرء بالعطاء فيها، تلك هي الرسالة الواضحة التي خاطبت من خلالها المؤلفة ما أسمته «الثالوث الأبدي» الذي تُرسى به المدارس ويُبنى به التعليم، وعنت به المعلمين سدنة الحرف وأسياد الصفوف، والتلاميذ الغارقين في بحور الواجبات المدرسية، وأولياء الأمور الذين يتوزعون المسؤولية مع المعلمين. شذرات من «مذكرات مدرسة» جمعتها صاحبتها بين دفتي كتاب لتجعله شاهداً ودليلاً على أن روح المعلم مسكونة دائماً بشغف المهنة وسمو الرسالة، فلا الزمان يقيّد عطاءه ولا المكان يحدّ ولاءه لأشرف المهام التي تتخطى مجرد الالتزام الوظيفي لتلامس الواجب الأخلاقي والديني في بناء الإنسان والأوطان. «قبل أن تبدأ بتعليم الصغار ابحث دائماً عن مفاتيح قلوبهم، فإن أحبك الصغير أخذ منك كل شيء وتقبل منك العقوبة»، بهذه العبارة الواضحة والبسيطة التي عنونتها المؤلفة «لمسة محبة» تكثّف السمات الأعظم والأبرز لمهمة المعلّم في كل زمان ومكان وعلى كل المستويات الدراسية والأكاديمية. التعليم هو الوسيلة الأنجع للوصول الى العقول من خلال القلوب، وهو المنهج الأسلم لبناء الأمم من خلال حسن إعداد الأجيال وصقل المواهب وتنمية الطاقات والمهارات، ولا يخفى في هذا الصدد ما تذكرنا به الكاتبة المخضرمة في مجال التربية والتعليم أن «من أسباب نجاح المعلّم في مهنته: ضمير حيّ، روح طفولية، قلب عامر بالحبّ، إيمان بمقدرات المتعلّمين». رائعة هي العلاقة بين المعلّم وطلابه، فبقدر ما يستحق هو مديحهم وثناءهم بقدر ما يستحقون منه الشكر على ما يدخلونه على قلبه من أنس وعلى حياته من تجارب وعلى وجدانه من شغف وعلى حياته من عطر ونور... القسوة التي يبديها المعلم حيال المقصرين لا تختلف عن قسوة الأهل اتجاه أطفالهم، والقلق الذي يسكنه على مستقبلهم لا يقلّ درجة عن أرق أكثر الحريصين منهم، والرعاية التي يحيطهم بها طوال سنين أعمارهم لا يختلف بشيء عن رعاية الأب الصالح والأم الحنون، فلا يقال في المعلم أكثر وأجمل مما قالت مؤلفة الكتاب به شعراً: قالوا وقلنا والمقال مردّدُ أنت المكارم والعلا والسؤدد يكفيك فخراً أن طه المجتبى لهو المعلّم والهدى والفرقد *** من نافلة القول أن التحية للمعلّم مستحقة، إلا أن مؤلفة الكتاب تستحق تحيتين، واحدة تتقاسمها مع باقي زملائها المعلّمين في الجهات الأربعة للكرة الأرضية، وأخرى تجدر بها دون غيرها كونها أكدت بروعة القناعة وجميل الصياغة أن عطاء الإنسان لا يقف عند سن أو عتبة مرحلة. فالدرس لم ينته ولن ينتهي عند التقاعد، بكل ما تطلبه اختبارات الحياة من خبرة وتحضير واندفاع وحب، كما أن الشغف لا ينضب والمشاركات المجتمعية والنشاطات الثقافية والأدبية والشعرية لا يحدها زمان ولا يطوقها مكان. فما التقاعد الا مرحلة من مراحل العمر، وإذا ما خرج الإنسان من حياته الوظيفية سالماً معافىً بإمكانه- لا بل قد ينبغي عليه- أن يخطو خطوات ثابتة في مسار جديد ملؤه الحكمة وزاده التجربة وهدفه العطاء وعنوانه الحياة بكل ما فيها من تحديات وإنجازات. من المتوقع في مرحلة التقاعد أن تتراجع مقدرة المرء على العمل المضني، إلا أن قدرته على العطاء لا ينبغي أن تكل ولا أن تقل، فقد يعطي نفسه فرصة للاسترخاء والاستمتاع، وقد يجود على المحيطين به بما يتوافر لديه من حكمة، وقد يمنح المجتمع خلاصة تجاربه، وقد يشارك المهتمين بأجمل ما اختزنه من مواهب... المهم في كل المسألة أن يقبل الإنسان على ما هو آت بتفاؤل وعزيمة وشغف وفرح. يساهم العطاء، وبخاصة في فترة التقاعد، بزيادة شعور الرضا والتوازن بين ما فات من إنجاز في الحياة المهنية وما هو قادم في الحياة الشخصية، مع إحساس غير مسبوق بالتحرّر من ضغوط أي قيد أو توجيه أو محاسبة، وسعة من الوقت لتحقيق ما تبقى من طموحات وتعزيز الصحتين النفسية والجسدية. تبدأ مرحلة التقاعد الناجحة بتحديد جيّد للأهداف بعد التقدير الدقيق للذات، فمن شأن ذلك أن يساعد في توجيه الجهود وربط الإنجازات بما قد يتوافر لدى المتقاعد من مواهب وإمكانات، فقد يشكّل السفر واستكشاف العالم متعة لم يتح للمرء تحقيقها، وقد يشكل النشاط الرياضي هدفا مناسباً، وقد يشكل النشاط المجتمعي والعمل التطوعي إفادة متبادلة، وقد تصبح القراءة والكتابة ملاذاً ممتعاً لم يكن بالإمكان في غمرة المشاغل سبر أغواره. ولا شك أن تحقيق الأهداف يقترن بمعرفة دقيقة للإمكانات والطاقات المادية والجسدية بما يؤثر في ترتيب الأولويات وتجهيز الوسائل بما يشمل استغلال المتقاعد للتقنيات ووسائل التواصل الحديثة، فمع التقدم الهائل في التكنولوجيا، أصبحت لدى المتقاعدين أدوات فاعلة لتعزيز صحتهم النفسية والجسدية، وتحويل مرحلة التقاعد إلى رحلة مليئة بالإنجازات والمتعة، حيث يمكنهم مثلاً من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أن يبقوا قريبين من أبنائهم وأحفادهم البعيدين في المسافة، وقد تستخدم هذه الوسائل لبناء علاقات جديدة، والانضمام إلى مجموعات تناسب عمر كل فرد واهتماماته. وقد يكون الأمر أكثر تقدماً وتفاعلاً وإنجازاً من خلال استخدام تقنيات العصر للتطوير الشخصي وزيادة المعارف وتعزيز الإمكانات، وربما لممارسة أنشطة معينة كالشراء والبيع والتجارة إلكترونياً أو ممارسة أي نوع من أنواع المواهب والإبداع والابتكار باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. فلم يعد الشعور بالملل والوحدة مبررا في عصرنا، ولم يعد مستحيلا أو صعبا أن يملأ المرء وقته بالتواصل مع عائلته وأصدقائه في جميع أنحاء العالم، ولم يعد معقدا أمر الانضمام إلى مجموعات تناسب اهتماماته الثقافية أو العلمية أو الرياضة أو الاجتماعية، كما لم يعد متاحاً أي فرصة للتفكير بمصاير الأعمار والتوتر من ضغوط الحياة أو القلق من عواقب الأمراض المزمنة، إذا ما أحسن المتقاعد مثلا استغلال الوقت بما هو مفيد ومسلّ في العالم الافتراضي والتطبيقات الحديثة التي تتسع مروحة محتوياتها باتساع مجالات الحياة، من تطبيقات الترفيه والترويح الى التطبيقات المختصة بأسرار الكون مروراً بتلك التي تهتم بالجانب الغذائي والصحي. * كاتب ومستشار قانوني.
مشاركة :