محمد بربر نحن أمام عمل لدى مؤلفه موقف، وعين، ومعالجة، موقف ثابت أصيل ضد التطرف والزيف والخيانة، وعين ترصد أزمات النفس والمجتمع والوطن، تفضح أزمة هذا البائس في علاقته مع أهله وأبنائه ومعارفه، ترصد كيف كانت مصر وكيف أصبحت بفعل كل “مشهور الوحش” من هؤلاء الذين يأكلون ويشربون في شوارع بلداتنا. ونظرة إلى عنوان رواية الكاتب محمد بركة، الصادرة عن دار نشر أوراق عربية خلال العام الجاري، تجد سيميائية تستدرج العالم البصري، وتظهر بين العالم المادي والمتخيل، فالبطل هنا يتطلع دائمًا إلى أن يصبح نصف إله، إنه كان صريحًا، يقول إنه كان يجلس على سريره كأنه عرش على الماء، يتطلع إلى المقامات الربانية، إلى العلو ولو بالاستعلاء، وفي ذلك علاقة رصينة بالنص الروائي، ليس هذا فحسب، بل بصيغة الخطاب السردية، والفضاء المكاني وأبعاده الرمزية الدالة. (1) بطل رواية “عرش على الماء” لديه أزمة حقيقية منذ أن كان صغيرًا، وقد تمرد على التعليم الديني حتى كما تمرد على الزي الأزهري، الشكل والمتن، والمؤلف نجح في أن يعري صراعات البطل الداخلية، فهو الباحث عن سماء التجلي، عن رفعة العارف، لكنه يغوص بقديمه في وحل الشهوة والماديات. هذا البطل المجنون يزعم أنه مؤمن بالله لكنه لا يقاوم الشهوات فالمتعة والتقوى كما يؤكد لا تجتمعان، “مشهور الوحش” الذي تجرع مرارة الخيانة على يدى “ست الدار” الوعد المؤجل في مملكة الذكورة، فقرر أن يكون أميرا على عرش كل النساء، كما امتدت خيانته إلى بيع وطنه، وهو حبيس التابوهات الثلاثة المال والنساء والسلطة، ورغم “كاريزمية” الشخصية، التي رسمها المؤلف ببراعة، إلى أن لمس الصراع النفسي الداخلي أمر لا يبدو صعبا، فنحن أمام عالم أو داعية يتسيّد على الناس بالفضيلة، يتورط في خيانات عديدة، لكن الخيانة الكبرى كانت خيانته لوطنه، وظني أن الخطاب هنا كان مباشرًا، ليس لضعف فني بل كما لو كان صرخة في وجه التيار المتطرف الذي تراجعت بسببه مصر سنوات طويلة. (2) هذا الداعية مزيف، يبرر القبيح، يحرّم الحلال، يستخدم تأويلات في غير محلها بحثًا عن مصلحته وحده، خان الأمانة وخان ضميره، وخان ثقة الناس فيه، واستغل منصبه في تحقيق أهدافه والوصول إلى شهواته. يقول البطل: “أدركت مبكرًا أن للعمة مع الجبة والقفطان تأثيرًا مذهلا على المصريين”. الكاتب هنا كان قريبًا من شخصية “مشهور”؛ ثقافته ووعيه واطلاعه، وبحثه عن التفاسير والشروح الدينية، اطلاعه على التراث، شراهة كل “مشهور”، حتى اسم البطل كان مطمعًا “الشهرة والنفوذ”، وهو في رسمه للشخصية يكشف عن شهوات “الوحش” الممتدة، ينزع القداسة بكل وضوح. وليس بالأمر الجديد، حين ترصد موقف “مشهور” من نكسة 67 والتمرد على الزي الأزهري والابتعاث للخارج واستخدام الحكايات الشعبية البسيطة في شرح المسائل الفقهية والفلسفية، وكلها أمور عشناها من قبل، ولكن البطل هنا ضعيف جدًا، يؤمن بالله ولا يقاوم لذاته وشهاواته “المتعة والتقوى لا تجتمعان”. أزمات البطل عديدة ومتشعبة، تكشف عن الأزمة الحقيقية التي بداخله، تراه في علاقة أسرية غريبة، يرتاح حين يتوفى والده، لديه أزمة مع زوجته، زملائه، مع ابنه، سيكودراما مذهلة امتدت إلى أبنائه، فهو بجنون العظمة يشعر أن وحيًا يأتيه من السماء، وأن علوه فوق الناس يأتيه من سلطته ووظيفته الدينية وهو يحيلنا إلى أزمة “الخاصة والعوام”، فقد أساء استخدام الخاصة في كل حياته، جنون العظمة امتدت إلى ابنته الزهراء “أنا بنت الشيخ الوحش يعني الملائكة تعرف قدري”. (3) والكاتب كان واضحًا مباشرًا في الخطاب، فمشهور لديه أزمة مع كل من يعكّر صفو تجارته، يشوّه العلمانية والاشتراكية ويكيل كغيره الاتهامات الجاهزة، كما أجاد الكاتب في استخدام الإشارات التاريخية في النص “النكلة” وطريقة الفلكة والانتقالات السردية الشاعرية، انتقالات الزمن “الطفولة / المراهقة/ دمياط / طنطا/ الوظيفة) وفي الرواية جاءت اللغة شعرية ممزوجة بالحس التراثي والمعاصر، حتى أنه أورد طرائف الأزاهرة وحكاياتهم، لغة رصينة تعكس مكونات هذه البيئة، حتى في الابتهالات تجد هذا الرجل وقد أصبحت الدنيا في قلبه بشهواتها. 40 ابتهالا، هنا لا أريد أن أقول إنها ابتهالات لله، أتصور أنها كانت نداءات للشيطان، وأن مشهور يدرك بوابات إبليس، وينشدها بمطامعه ونفسه الخبيثة. “يا من جعلت الغيوم حجابك والسماوات وردتك، أسألك أن تُنعم علىَّ بذنب يُبكينى حتى تبتل لِحيتى، فقد حرمنى دوام طاعتك من تذلل التائبين”. يقول الراوى: «ابتلى سليمان بحب الصافنات الجياد وابتلانى بحب الشقراوات الناهدات»، وفي مشهد يحمل دلالات عدة، يختتم الكاتب روايته كما بدأها، فالبطل يمدد قدميه إلى جوار “زليخة” التي تسقيه اللذة على مهل بملعقة شاي، حبات العرق على جبينه تتحدى ليل لندن، وهو يحيلنا إلى سؤاله المبكر “متى بالضبط عبرني الزمن مثل سحابة عمياء؟”، سرعان ما نامت إلى جواره فيصفها بأنها تأكل أرزًا بلبن مع الملائكة، يغطي صدرها العاري ويقوم من سريره بعد أن يعترف أنه أشبه ما يكون بإنسان آلي صممه بكل إيمان ياباني كافر، وقد استرخى وأخذ يشعل سجائره حتى بزغ فجر أزرق فتحول سطح النهر إلى بحيرة لا حد لفتنتها، غير أنني أرى فتنة الشيخ الحقيقية تتمثل في “ست الدار” التي قال فيها: “دانت لي فاكهة الدنيا بما رحبت لكني ما زلت أسير التفاحة الأولى”.
مشاركة :