«تاريخ الأيديولوجيات» لشاتليه: محاكم التفتيش وخلفيات الحروب الصليبية

  • 4/16/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

إذا كان الجزء الأول من كتاب «تاريخ الأيديولوجيات» الذي أشرف عليه الباحث الفرنسي فرانسوا شاتليه، قد وسّع نطاق البحث في جذور الأيديولوجيا، ليشمل «العالم القديم كله» فإن الجزء الثاني والأهم، الذي يحمل عنوان «من الكنيسة إلى الدولة: بين القرن التاسع والقرن السابع عشر»، حصر بحثه، كما يدل عنوانه، في أوروبا المسيحية، حيث قامت العلاقة الأولى والأساسية بين الدولة كمفهوم حقوقي، والكنيسة كإطار للمفهوم الأيديولوجي. ولكي لا يتشعب البحث كثيراً، يحذرنا الكتاب منذ البداية قائلاً: «منذ القرون الأولى لعصرنا هذا، فرض المفهوم المسيحي للعالم نفسه على شعوب الغرب، بوصفه إطاراً إرغامياً للنشاط وللتفكير. وعلى هذا النحو استُخدم الوحي الديني، وحُرّف، لأهداف سلطوية. أي أن السلطة، التي نبعت أصلاً من مصدر إلهي، أتت هنا لتعزز وتؤكد على القوة المادية للأمير... هادفة إلى خلق الدولة ذات السيادة عند فجر الأزمنة الحديثة. آنذاك تحولت الأيديولوجيا من عملية فهم للعالم، إلى قناع يخبئ هيمنة الأمير، ثم الدولة، على السلطة سواء في الكنيسة – الدولة، أو في الدولة العلمانية في ما بعد». من هنا كان الهم الأساسي لهذا الجزء من الكتاب مواكبة هذه السيرورة، وهذه المواكبة تشتمل على بحث في كيفية الانتقال من الكنيسة إلى الدولة، هذه الكيفية التي تستتبع فكرة الانتقال من نوع من السلطة إلى نوع آخر، أي من وضع يحكمه غريغوار الكبير، إلى آخر يحكمه لويس الرابع عشر. معززاً بصيغ لا بد من التوقف عندها مثل: نهاية العصور القديمة – العصور الوسطى – عصر النهضة – الأزمنة الحديثة. ويقول شاتليه إن الوقوف عند هذه الصيغ يسمح باتخاذ موقف من ثلاثة: 1- موقف يجد في عملية الانتقال فرصة للشكوى من اختفاء الجماعة الدينية المتناسقة. 2- موقف يجد في العملية فرصة للتمتع بانتصار مجتمع البشر على مجتمع الدين. 3- موقف ثالث، يتخذه أولئك الذين يراقبون بموضوعية، جدلية التطور العام للبشرية. > ومن الواضح أن شاتليه ليس بحاجة هنا إلى التأكيد على البعد السياسي لهذه المواقف. لكنه يجد نفسه مجبراً على لفت النظر إلى أن أبحاث الكتاب ترمي إلى التأكيد على عدم وجود منطق واحد وأحادي يحكم تلك التغيرات ويقود تطورها ويؤكد أيضاً أن نظرية الهيمنة الأونطولوجية والسياسية لمدينة الله على مدينة البشر، لا يمكن استكمالها أو تجاوزها من قبل المفهوم الثنائي الذي ابتدعه توما الأكويني حول «ما فوق الطبيعي» و»الطبيعي». والاختلاف الأساسي بالنسبة إلى شاتليه يكمن من إيمانه بأن «الأيديولوجيات إنما هي مشروعيات، سيرورتها سيرورة الأدوات التي ترمي إلى الإقناع والإرغام»، وهي انطلاقاً من هنا، منخرطة تمام الانخراط في الممارسات الاجتماعية. إنها نتائج النضال (الصراع) في سبيل السلطة. لكنها في الوقت نفسه، أدوات هذا الصراع وعناصره. ولا شيء يمكنه أن ينفي وجودها إلا تهاوي القوى السياسية التي تساندها. > للوصول إلى تعميق هذه الفكرة، يجد الكتاب نفسه أمام مفهومين: الغرب والمسيحية. وهو يعالج هذين المفهومين والعلاقة بينهما في الفصل الأول الذي يحمل عنوان «المسيحية». فالغرب، أولاً، بالنسبة إلى جيرار ميري، ليس له تفسير محدد، خارج إطاره الجغرافي، إلا ضمن كونه مفهوماً مسيحياً. فـ»الغرب، انطلاقاً من هنا، أسطورة»، والأيديولوجيات التي تغذي الأسطورة هنا، أيديولوجيات غربية، تلعب فيها المساهمة المسيحية دوراً أساسياً... إذا كان الغرب يتخذ شكله ضمن جسم نظري منظم انطلاقاً من مفهوم المسيحية. فإن المفهوم يظل، باستقلال عن مغزاه، مفهوماً مسيحياً. والمسألة التي تطرح هنا هي مسألة معرفة كيف استطاعت الحتمية التاريخية، المقدسة، أن تخلي المكان لتاريخ آخر دنيوي، يتميز بكونه تاريخاً حديثاً؟ > إن فكرة الشعب المسيحي الذي يبني الأفق السياسي «القروسطي»، تنبع مباشرة من أطروحات القديس بولس الذي يقول: «ليس ثمة يهودي أو يوناني، لم يعد ثمة عبد أو حر، لم يعد ثمة رجل أو امرأة... وذلك لأنكم جميعاً لم تعودوا سوى شخص واحد في يسوع المسيح». من هنا يمكن القول إن المملكة الحقيقية، بالنسبة إلى المسيحي إنما هي مملكة سماوية لا أرضية... فكيف حدث لهذه المملكة أن تحولت في «الغرب الأسطوري» إلى دولة أخذت تنفصل عن المسيحية قليلاً قليلاً؟ هذا السؤال، هو الإشكالية الأساسية التي تحاول أن تجيب عليها الفصول التالية. قبل أن يتناول بيار – فرانسوا مورو مسألة «الامبراطورية المقدسة» حيث كانت بداية العلاقة الحتمية بين الكنيسة والدولة، يعود بيار غريوليه إلى الكنيسة في «صفائها الأول»، إلى أولئك الرجال الذين اكتفوا بالممارسة الدينية «والذين لا يزال تاريخهم بحاجة إلى من يكتبه»، وإلى تلك الكنيسة التي كانت في أصلها مكاناً لكلمة الله وللممارسات الدينية واللقاءات الاجتماعية. هذه الكنيسة سرعان ما انتهى أمرها، وحلت مكانها الكنيسة الأخرى، الكنيسة التي تحاول أن تجعل من نفسها وحياً على السلطة ومبرراً لها. ولقد كانت الشرارة الأولى عبر ثلاث مراحل أولها تزوير وصية قسطنطين، والثانية تتويج البابا ليون الثالث لشارلمانيْ، والثالثة تحول هذا التتويج إلى تقليد رسمي. ويذكر كاتب هذا الفصل حكاية بيبين القزم ملك الفرنجة، الذي اعتلى العرش أولاً، عن طريق مجلس أعيان الفرنجة، ثم عن طريق الأسقف، وفي المرة الثالثة حين توج على يد البابا لدى زيارة هذا الأخير إلى فرنسا. غير أن هاتين القوتين: السلطة والدين، سرعان ما امّحتا لاحقاً أمام القوى الجديدة، حين وجدت سلطة البابا، التي أخذت قبلاً بالنمو تجد من ينازعها وينكرها». > في الفصل المخصص للحروب الصليبية، يعود أوديلون كابان إلى مجمع كليرمون الذي عقد في العام 1095، وحدّد فيه البابا أوربان الثاني أسس المجتمع الجديد الذي سيلعب فيه الحس الديني الدور الأكبر، عن طريق غزو الشرق لأسباب اقتصادية غُلّفت بذرائع دينية. وفي ذلك المجمع وجدت الأيديولوجيا خير تعبير لها عن طريق الامتيازات التي طرحت كوسيلة لإغراء المقاتلين: البركة التي تعطى للصليبي – الغفران التام عن كل خطاياه – الوضع الحقوقي الذي يجعل من الكنيسة ضامناً لأهله وأملاكه ومستقبله. ولعل هذا ما جعل الحملات الصليبية تشكل الانقلاب السياسي الأكثر أهمية. ولقد أثبت لنا التاريخ أن هذه الحملات لم تكن شطحات جنون ذات دوافع مهلوسة وهاذية، بل إجراءات تتمتع بامتياز كونها معبّراً أساسياً عن عقلانية غرب لا يزال قائماً هو هو حتى الآن لا يتغير. فهذه الحملات إنما هي إشارة على التحول من المسيحية الديرية والإقطاعية إلى مسيحية الجماعة: إلى مسيحية المملكة البورجوازية. وإذا كان تنظيم الفروسية قد وضع الأسس السليمة والمنطقية للجيش البورجوازي، فإن الدين سرعان ما عرف كيف ينظم أشكاله القانونية، وذلك عبر مفاهيم ثلاث، طورت أيديولوجيا وفكرياً، حيث بدأت تتخذ معنى مغايراً تماماً لذاك الذي كان لها في الأيام «الصافية» للمسيحية: فالإحسان المسيحي، تحول إلى نوع من تنظيم علاقة بين الأفراد، وبين الفرد والجماعة، تنطرح كبديل لصراع المصالح، والعدالة، لم تعد تعني العدل بين الناس وإعطاء كل ذي حق حقه، بل صارت تعني الحيلولة دون «الشر»... والسلام، لم يعد نقيضاً للحرب، بل أضحى سلاماً يتجسد في المسيح. > من هنا كان من الطبيعي أن تنتظم قوات القمع التي بإمكانها أن تفرض هذا القانون، وكانت البذرة الأولى عبر محاكم التفتيش: بوليس الإيمان! حيث صار من شأن البابا أن يعين محققاً ويرسله ليفرض هذا نفسه على الملك، خادماً وناصحاً. وعلى هذا النحو توحدت السلطتان في سلطة قمعية واحدة. وصار همّ هذه السلطة مطاردة كل الهراطقة والمشبوهين، أي كل الذين يحاولون اتباع حياة، أو ابتداع أفكار تقف خارج المألوف. وهذا ما جعل ثمة نوعاً من الانتظام المثلث المتعارف عليه بين السلطتين: ممارسة القمع – التنظير له – مشروعيته الإلهية. وإذا كانت تلك المرحلة قد شهدت تعدداً في أنماط العلاقة، وفي شكل سلطة الدولة والعلاقات بين البشر، فإنه «سرعان ما قامت نظرية كانت هي التي أتاحت تنظيم القواعد المتعددة، والوصول إلى بعض الاستنتاجات: لقد أعطى الله للبشر، على التوالي، ثلاث شرائع تتباعث من دون أن تلغى واحدتها الأخرى: الشريعة الطبيعية، السباقة على فكرة الخطيئة. والشريعة اليهودية التي كانت ثمرة التحالف مع شعب إسرائيل، وأخيراً شريعة المصالحة التي حملها المسيح إلى البشر. ومن الواضح أن هذه الشريعة الأخيرة فرضها ذلك الاستقرار في جماعات.

مشاركة :