محمود درويش يتوسل لماسح الأحذية في حيفا

  • 5/15/2024
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

للشعراء والكتاب المشاهير قصص عجيبة ومثيرة من وقائع عاشوها أو عايشوها، ما إن نقرأ تفاصيلها في مذكراتهم حتى نتفاجأ أو نضحك أو نشعر بدهشة ما، إذ يبدو ما حصل وكأنه إنزال للشاعر المشهور من برجه، الذي نصنعه نحن له كقراء ومعجبين، إلى عالمنا البسيط والبعيد كليا عن رفعة الأدب التي أقنعونا بها. ومن هؤلاء الشاعر محمود درويش. عُرف عن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش مزاجه الحاد ونزقه المتصل بشخصيته المبدعة، إضافة إلى طرافته ونكته الحاضرة، وحساسيته العالية اتجاه الآخرين، وعلاقة من حوله بشعره، فقد قيل أن من أسباب طلاقه من رنا قباني هو اطلاعها على مسودات قصائده. وكانت هذه الطباع المتأصلة في شخصيته تسبب له بعض المرات الكثير من الحرج وردات الفعل من أناس همهم الرد بالمثل على نزقه ورد الصاع له صاعين، همهم الأول كرامتهم وعنفوانهم لا الشعر ولا النثر ولا حتى الشهرة التي يحظى بها الشاعر العظيم محمود درويش، والذي يعتبر أهم شاعر عربي بعد المتنبي كما يقول عنه الناقد الفلسطيني الدكتور عادل الأسطة. لكن هل يخطر ببال أحد منا أن “صاقل الماس” كما أطلق عليه الكاتب الفلسطيني زياد عبدالفتاح، يتغلب عليه ويهزمه ماسح أحذية البويجي؟ محمود درويش الذي كان يقال عنه إنه الشاعر العام للثورة كما أبو عمار هو القائد العام للثورة. ليس هذا فقط بل أن “البويجي” العبقري دفع محمود درويش للاعتذار منه واستعطافه والتوسل إليه أيضا. في سيرته “بين مدينتين” يروي فتحي فوراني طرائف من حياة الشاعر محمود درويش في حيفا قبل هجرته. أحيانا يعيد رواية ما رواه الشاعر نفسه، ومن ذلك ما أورده تحت عنوان “كيف انتصرت عبقرية ماسح الأحذية على حذاء الشاعر". وفي هذا المقام يروي محمود درويش ما جرى بينه وبين ماسح الأحذية: “للحذاء حرمته وكرامته، حكاية طريفة حدثت معي هذا اليوم". وتابع “أمر كل يوم بجانبه.. يجلس على كرسي قصير القامة وإلى جانبه صندوقه الخشبي المرصع بالنحاس اللامع. ويستجدي أحذية المارة. أمر ولا أعيره اهتماما. يلح عليّ لأن يلمع لي حذائي، فأرفض، لأنني لا أحب أن يتدخل أحد في الشؤون الخاصة لحذائي. أحب أن أتولى أمر حذائي بنفسي متى أريد، وكيفما أريد. ولا أحب أن أسلم حذائي لأحد غيري. فللحذاء سمعته الطيبة وحرمته وكرامته التي تفوق ‘كرامة‘ بعض المخلوقات من العباد". أقول لنفسي "إياك يا ولد أن تتخلى عن كرامة الحذاء. فأرفض بشدة. ويلح بشدة. ويرفض الحذاء بإباء أن يرضخ لإرادة ماسح الأحذية وإغراءات فرشاته وحركاتها البهلوانية الرشيقة. ويتكرر المشهد كل يوم. ويخيل لي أن صاحبي يظن أنني مخلوق غريب هبط عليه من عالم ‘البخلاء’ للجاحظ، ولم أدرِ سر هذا الإلحاح الذي تجاوز حد الإزعاج المباح". ◙ طباع الشاعر محمود درويش الحادة أحيانا سببت له الكثير من الحرج وردات الفعل من أناس همهم الرد بالمثل ◙ طباع الشاعر محمود درويش الحادة أحيانا سببت له الكثير من الحرج وردات الفعل من أناس همهم الرد بالمثل يتابع محمود درويش “إلى أن كان يوم أمس عندما مررت به. ‘تلبسني’ وشدني من يدي. وحاول اغتصاب حذائي. وصلبه على صهوة الصندوق. إنها عملية مراودة عن النفس واغتصاب للحذاء المسكين في وضح النهار. وعلى رؤوس الأشهاد. لقد كان ينتظرني ويتربص بحذائي، وفي نفسه أمر. قال لي: ‘أريد أن أمسح لك الحذاء وألمعه. مجانًا وبلا مقابل’. جبرا للخواطر. سلمت أمري لله ولماسح الأحذية. فوضعت قدمي اليمنى فوق المكان الذي يضع عليه العباد أقدامهم على صندوقه المرصع بالنحاس اللامع. شمر الرجل عن ساعدَيه. ثم راح يجد في تنظيف ‘الفَردة’ اليمنى. وأخذ يمسحها ويلمعها ويتأملها ويتغزل بها. وينظر إليها نظرة ‘فنان’ عاشق معجب بلوحته الفنية. ثم واصل المسيرة. وراح يجد ويلمعها بحماس منقطع النظير. حتى غدت أجمل مما تصورت. إنها فعلا ‘لوحة فنية’ تختال بردائها الأرستقراطي الأسود. وانتظرت أن يكون نصيب أختها كنصيبها. فيمشي الشاعر في الشارع طاووسا لقد وقعت في الشرَك". ويواصل درويش “كانت المفاجأة التي سقطت عليّ كالصاعقة لقد وقعت الواقعة. وكانت الطامة الكبرى. فعندما أنزلت قدمي اليمنى عن “صهوتها” ووضعت أختها لتحل محلها. قال لي بفرح مشوب بالمكر والغدر والنصر: آسف.. لا أستطيع أن أمسح ‘الفَردة’ الثانية. وظننت أنه يمازحني ويود أن يشد أعصابي ويوقعني في مطب. ورجوته متوسلًا أن يستر عليّ ولا ‘يبهدلني’.. ولم يسعفني التوسل إليه. واستعدادي أن أدفع له ما يريد. مبلغًا كاملًا حلالًا زلالًا. حفظًا لـ’توازن القوى’ بين الحذاءَين. وصونًا لفضيحة قد تكون فضيحة بجلاجل. وقد يكون لها ما بعدها وما أدراك ما بعدها؟ على هذه الصخرة.. سأقيم قلعتي. وتمترس الرجل في قلعته. وأصر على رفضه وتعنته وإصراره الفولاذي. لقد وقعتُ في الفخ. فرفعتُ الراية البيضاء. أحسست أنني أسير عاريًا. وتخيلت آلاف العيون تنظر إليّ. إلى هذا ‘المخلوق’ العجيب الذي هبط من السماء ويسير بحذاء ذي وجهَين. وذي عالمَين. أنتظر لحظة الغروب. وأنا أكاد أطق. أحاول أن أخبئ عاري بستائر الظلام فالليل أبوساتر. أسير في الشارع. وأنا أخشى أن تسقط ورقة التوت. وأتبهدل ويلمح بعض المارة ‘كوميديا الأحذية’. فينظرون إلي بدهشة وسخرية. ويظنون بي الظنون. يشيرون إلى المفارقة الديالكتيكية في حذائي ذي الوجهَين المنافقَين. الأول أسود حالك. والثاني رمادي كالح، وتكون الفضيحة. وما صاحبكم بمجنون ورأيت فيما يرى النائم”. كان محمود درويش يسير وورقة التوت تتأرجح وتوشك أن تسقط. يحاول دفع الشك عن نفسه، وفي نفسه تتوثب رغبة جامحة ليدب الصوت. ويصرخ "لا تظنوا بي الظنون. والذي نفسي بيده. ما صاحبكم بمجنون". وهكذا انتصرت عبقرية ماسح الأحذية على الشاعر وحذائه المسكين.

مشاركة :