دعي الفيلسوف الأمريكي جون ديوي لإلقاء سلسلة محاضرات في الصين، فيما بين عامي 1919 و1920 فجعل موضوعها أنواع التفكير وقدم فيها تحليلاً عميقاً لمجموعة من المفكرين القدامى، وعلى رأسهم سقراط وأفلاطون وأرسطو، ثم عمالقة الفكر الحديث: بيكون وديكارت ولوك، وقدم أيضاً نماذج من الفلاسفة المعاصرين، فاختار وليم جيمس وهنري برجسون وبرتراند رسل، وقدم أيضاً محاضرة مختصرة عن مذهبه الاختباري، الذي يرى أنه الحل لمشكلة الصراع بين المذهبين التجريبي والعقلي. لم تكن هذه المحاضرات متاحة إلا في الصين، وكانت ممنوعة من النشر على مدى 30 عاماً، وقد ترجمت فاطمة الشايجي إلى العربية الكتاب الذي ضمها وعنوانه أنواع من التفكير وقدم له د. إمام عبد الفتاح إمام، حيث يذكر ديوي أن هناك ثلاث مدارس للمنهج الفلسفي: مدرسة التنسيق أو التصنيف التي يمثلها أرسطو، المدرسة العقلية أو الاستنباطية التي يمثلها ديكارت، المدرسة الاختبارية التي يمثلها ديوي نفسه. عرض ديوي في هذه المحاضرات مسحاً شاملاً للفلسفة اليونانية، التي بدأت لأول مرة على أيدي المهاجرين اليونانيين، الذين استوطنوا آسيا الصغرى، على وجه التحديد فيما سماه بدولة المدينة النائية، وكما بدأ بالمشكلات المبكرة، التي ظهرت في بداية الفلسفة اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد، في العصر الذي أطلق عليه كارل ياسبرز اسم العصر المحوري وتتلخص هذه المشكلات المبكرة في مشكلتين رئيستين هما: مشكلة الواحد والكثير، مشكلة الوجود والصيرورة، فقد بدأ الإنسان اليوناني في المستعمرات اليونانية القديمة، يبحث عن مبدأ واحد، يجمع الظواهر الطبيعية المعقدة. يبين لنا ديوي أن ظهور هاتين المشكلتين (الواحد والكثير، الوجود والصيرورة) أدى إلى ظهور مدرستين، زعمت الأولى أن العالم واحد وأزلي، ثابت لا يتغير، في حين ذهبت الثانية إلى أن التغير هو السمة الأساسية للعالم، وقد طورت هاتان المدرستان تصورات مختلفة وأدوات قوية، أقيم عليها المنطق فيما بعد، وقد أدت هذه الحركات الفكرية، إلى جانب التغيرات الاجتماعية والتطورات السياسية، إلى ظهور المدرسة السوفسطائية، التي يعتبرها ديوي، كما اعتبرها هيجل من قبل، الممثل الرئيس لعصر التنوير عند اليونان، حيث تحولت مشكلة الوحدة والكثرة والوجود والصيرورة، إلى مشكلات حياتية فعلية، لا مجرد مسائل خاصة بالتأمل الفلسفي، فارتبطتا بالنزعة المحافظة والنزعة التقدمية والتحكم والحرية.
مشاركة :