لأيام قليلة خلت، لم أكن قرأت للشاعر السوري الراحل رياض الصالح الحسين (1982-1954) بمقدار يتيح لي تكوين صورة دقيقة وعادلة عن مكانته المرموقة، في إطار حركة الحداثة الشعرية العربية. صحيح أنني أحتفظ في مكتبتي بنسخة من مجموعته الثانية «أساطير يومية»، ولكنني لسبب أجهله لم أقرأ المجموعة، أو ربما كنت قرأتها في ظروف غير ملائمة لم تتح لي فرصة إنصاف الشاعر الذي رحل قبل ثلاثة عقود ونيف من الزمن وقراءته، كما ينبغي لشاعر من طرازه أن يُقرأ. وحين كان العديد من الشعراء السوريين والعرب يأتون على ذكر رياض بوصفه شاعراً طليعياً عالي الموهبة وشديد الخصوصية، كنت أظن لسبب أو لآخر أن في الأمر قدراً من الغلو والمبالغة يحتاجه بعض شعراء قصيدة النثر في بحثهم عن «أساطير» مؤسسة لخيارهم التعبيري الذي كان يحتاج في مقارعته لشعرية التفعيلة الى ظهير متميز يضاف الى تجارب الرواد من أمثال أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس، في جانبه النثري. وحين أهداني الشاعر والناشر وابن شقيقة الحسين عماد نجار أعمال خاله الكاملة، أثناء لقائنا في معرض تونس الأخير للكتاب، وجدت الفرصة سانحة لقراءة المجموعات الأربع لصاحب «بسيط كالماء/ واضح كطلقة مسدس»، الذي لم يستغرق مروره بهذا العالم أكثر من ثمانية وعشرين عاماً. لم يكن حرصي على تتبّع وقائع الحياة القصيرة لرياض الصالح الحسين أقلّ من حرصي المماثل على قراءة شعره الناضح بالجدة والصدق والطراوة الضارية. صحيح أن ما يعول عليه في النهاية هو النص الأعزل والعاري، لكنّ الصحيح أيضاً أن حيوات بعض الشعراء لا تقل في غرابتها ومشقاتها وانعطافاتها الدراماتيكية عما يكتبونه من نصوص. وهو ما ينطبق على شعراء أقدمين كامرئ القيس وطرفة والمجنون وأبي نواس، بقدر ما ينطبق على آخرين معاصرين من أمثال أبي القاسم الشابي وبدر شاكر السياب وأمل دنقل وآخرين غيرهم. لذلك اكتسبت المقالات الثلاثة المرافقة للديوان أهميتها البالغة من قدرتها على الجمع بين ما هو توثيقي من سيرة الشاعر الراحل وما هو نقدي وتأملي في مقاربة لغته وأسلوبه، حتى لو اتسمت الكتابة بنبرة عاطفية ذات منحى تأبيني. وما أورده منذر المصري في مقدمته حول رغبة رياض الملحة في إخفاء مرضه عن أعين الجميع تجنباً لظهوره في مظهر الضعف، يتكامل مع محاولة صديقه الأثير هاشم شفيق لإظهار التقاطع التراجيدي لحياة الحسين ومناخاته التعبيرية مع الانكليزي جون كبتس والعراقي بدر شاكر السياب. أما عماد نجار المؤثر فيذهب في نصه المؤثر الى الحديث عن غربة الشاعر القاتلة وسط عائلته، وعن تلقفه الحماسي لنصوص خاله بما زلزل كيانه الداخلي وحمله على تغيير مسار حياته برمتها. «خراب الدورة الدموية» لن يحتاج المرء الى تجاوز السطور القليلة الأولى من قصيدة «دخان» التي يستهل الشاعر بها عمله الأول «خراب الدورة الدموية» لكي يدرك أنه لا يقف إزاء تجربة عادية وبعيدة عن الاكتمال، شأن معظم الشعراء في بواكيرهم، بل هو يجد نفسه أمام شعر ناضج ومتدفق ومكتمل الشروط الفنية والتخييلية. وإذا كان المكتوب يقرأ من عنوانه، على ما يذهب القول السائر، فإنّ عنوان المجموعة لا ينم عن المرض المبكر والخطير الذي يفتك في شرايين الشاعر ووظائف جسمه المختلفة، بل يتعدى ذلك للحديث عن خراب العالم ومأزق الوجود برمته، بخاصة في مناخات الاستبداد السياسي والاجتماعي التي تعود بالإنسان الى المربع الأول للفقر والخوف والإذلال وانسداد الأفق. هكذا تتدفق القصائد كالنهر من خيال الشاعر، الذي لم يتجاوز تحصيله الدراسي المرحلة الإعدادية، منبثقة من الموهبة المجردة ومتصلة بما تسميه مرغريت دوراس «الصراخ الوحشي للحيوانات الليلية»، لا من حذلقات اللغة وتصاميمها الباردة. ولعلّ ما ساعد الحسين على تجنب المطبات والمزالق الخطيرة التي وقع فيها شعراء مجايلون له من جنوح الى البلاغة المتعسفة والرصف الشكلاني هو التصاق شعره به الى الحد الذي تبدو معه اللغة أنيناً جوفياً أو حشرجة روحية غير قابلة للتأجيل. هكذا تبدو قصائده برمتها نوعاً من السيرة الذاتية أو البورتريه الشخصي المستلّ من أرشيف القهر والتشرد، كما من علامات السياط على الجسد الواهن». يركض في عينيه كوكب مذبوح وسماء منكسرة/ يركض في عينيه بحر من النيون/ ومحيط من العتمة الطبقية/ وفي عينيه أيضاً تركض صبية جميلة بقدمين حافيتين/ يغني: لقد كانت طرية كالثلج والينابيع/ لقد كانت سنبلة طرية/ ولذلك التقطتها بمناقيرها العصافير». ينتزع صاحب «وعل في الغابة» صوره وتشبيهاته من عالم المفارقات المباغتة وغير المتوقعة والتي لا تتجاور دلالالتها ومعانيها الأصلية. غير أن تعاقب الصور والعبارات لا يظهر بوصفه تراصفاً تأليفياً مفتعلاً، بل إنه يندغم في الحالة الشعورية التي تبث فيه كهرباء العصب وتحمله فوق صفيح التوتر الساخن. والشاعر الذي يعرف بحور الشعر ويضمن أعماله بعضاً من القصائد التفعيلية، يبدو في قصائده النثرية أكثر تمكناً وتوهجاً وتلقائية، كما أن المساحة الزائدة من الحرية التي يتيحها له النثر تمكنه من الاستثمار على المعنى عبر موجات متلاحقة من الاستعارات والتشابيه الصادمة. وهو يفيد الى أبعد الحدود من القصيدة الماغوطية التي تقارب الشعر من جهة الشرايين والاحتفال بالحواس وإعادة الاعتبار الى التشبيه والتناظر شبه الموزون بين الجمل. وهو ما نلاحظه في قصيدة «جندي» التي يقول فيها: «في الأزمنة البعيدة\ في الأزمنة القريبة\ كان يرعى برسيم الحروب كخروف صغير\ حاصر المدن كما تحاصرون زوجاتكم في الفراش\ اعتدى على الأفئدة والأشجار والحيوانات الأليفة\ اغتصب امرأة وقرية ومساحات شاسعة من الموسيقى\ ... وعندما مات كما يموت الجميع\ كان يعض شفته السفلى بضراوة\ ويبصق على نفسه بدون استئذان أحد\ ولم يترك – كما تعلمون -\ بوليصة تأمين لأولاده». كما تحتل المرأة مساحة غير قليلة في شعر الحسين الذي خاض خلال حياته القصيرة والقاسية مغامرتين عاطفيتين أدتا الى إنهاكه النفسي والعصبي. وهو ما يذكرنا مرة أخرى بتجربة السياب المريرة مع النساء اللواتي أحبهن بكل جوارحه، ولم يبادلنه الرغبة بالرغبة والاندفاع بالاندفاع. خلل عاطفي لعلّ هذا الخلل الفادح في حياة الشاعر العاطفية وحاجته الملحة الى الحب قد عجل في استفحال مرضه ووصوله السريع الى حتفه. ولعل قصيدته «لماذا» تعكس بعضاً من وجوه تمزقه الصعب بين حاجته الى المرأة وبين الثمن الفادح لتعلقه بها «لماذا نحب بعضنا بعضاً\ ما دام جيبي محشواً بالأجراس\ وجيبك محشواً بالجثث؟\ لماذا نقبّل بعضنا بعضاً\ ما دام فمي رأس إوزة حمراء\ وفمك عمود كهرباء متغضناً؟... \لنبق بعيدين إذاً\ يدك تتثاءب على الوسادة\ ويدي ترعى قطعان الرصاص\ وفيما بعد اذا التقينا في مقبرة واحدة\ لن أنكر أبداً بأنني أحببتك». من الصعب أخيراً أن ننهي هذه المقالة من دون التنويه بروح التمرد والاحتجاج في شعر رياض الصالح الحسين، الذي تشيع فيه نزعة إنسانية عارمة تتجاوز أحوال بلاده البائسة لتتعقب مظاهر البؤس والاستلاب وتراجع منسوب العدالة في العالم المعاصر. أما قصائده عن سورية فتبدو مثخنة بالحزن والغضب والسخط على الواقع. وإذا كان البعض يرى في بعض قصائده إرهاصاً مبكراً بالثورة التي طال انتظاره لها، فإن ما جسده شعره ليس الحث على العنف وإراقة الدماء، بل التعلق حتى الوله ببلده الأم وحقها الراسخ في الحرية والكرامة والتخفف من وطأة الاستبداد «يا سورية الجميلة السعيدة كمدفأة في كانون\ يا سورية التعيسة كعظْمة بين أسنان كلب\ يا سورية القاسية كمشْرط في يد جرّاح\ نحن أبناءك الطيبين\ الذين أكلنا خبزك وزيتونك وسياطك\ أبداً سنقودك الى الينابيع\ أبداً سنجفف دمك بأصابعنا الخضراء\ ودموعك بشفاهنا اليابسة\ أبداً سنشق أمامك الدروب\ ولن نتركك تضيعين يا سورية\ كأغنية في صحراء».
مشاركة :