في إحدى قاعات العرض بالمتحف العراقي وسط بغداد، وقف الخمسيني خالد يوسف، منبهرا أمام أحد ألواح ملحمة جلجامش الذي استعاده العراق قبل نحو ثلاثة أعوام ضمن آلاف القطع الأثرية من الولايات المتحدة الأمريكية في أكبر عملية استرجاع للآثار العراقية المهربة. وإبان الغزو الأمريكي للعراق في العام 2003 وعقبه تعرض المتحف العراقي والمواقع الأثرية المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد للسرقة، إذ تم نهب آلاف القطع الأثرية، التي تمثل مراحل مختلفة من تاريخ بلاد الرافدين. وجرت عمليات السرقة بشكل منهجي من المتحف العراقي أو من خلال حفر ونبش مواقع أثرية من قبل لصوص ومهربي آثار، خاصة في الأيام الأولى لاحتلال بغداد. ومنذ ذلك الحين يسعى العراق بكل جهد لاستعادة آثاره المنهوبة. -- أكبر عملية استرجاع للآثار العراقية المهربة في صيف العام 2021 أعلن العراق أنه تسلم أكثر من 17 ألف قطعة أثرية فيما وصف حينها بأكبر عملية استعادة للآثار المهربة. وشملت القطع العائدة حينها 17 ألفا و321 قطعة أثرية من الولايات المتحدة الأمريكية و9 من اليابان و7 من هولندا وواحدة من إيطاليا. ومن بين هذه القطع كان اللوح السومري لملحمة جلجامش التاريخية والذي وقف العراقي خالد يوسف أمامه مشدوها، وهو يردد "حدث عظيم بالنسبة لي أن أقف اليوم أمام هذه الملحمة التاريخية الكبيرة". وأضاف الرجل الذي قدم من بريطانيا، حيث يقيم، إلى بغداد في جولة سياحية فيما يحتفل العالم باليوم العالمي للمتاحف لوكالة أنباء ((شينخوا)) "أشعر بالفخر لوجود هذه القطع الأثرية في المتحف العراقي بعدما تعرضت للتهريب مثل آلاف القطع الأخرى، إنه نجاح يسجل لبلدي". وتعرض هذا اللوح للسرقة في تسعينيات القرن الماضي خلال حرب الخليج الأولى، وفق معاون قسم الاسترداد في الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية عزيز إبراهيم. وقال إبراهيم لـ ((شينخوا)) "إن العراق تسلم هذا اللوح الأثري المهم إضافة إلى 17321 قطعة أثرية من الولايات المتحدة في أكبر عملية استرجاع للآثار العراقية المهربة" في أواخر شهر يوليو من العام 2021. ويعود تاريخ اللوح لسنة 3500 قبل الميلاد، وتعد استعادته "حدثا كبيرا ومهما"، وفق إبراهيم. وأوضح أن قسم الاسترداد التابع للهيئة العامة للآثار والتراث يعمل على استرداد القطع الأثرية المهربة من الدول التي تتواجد فيها من خلال رصد أماكن تواجدها ومتابعة المواقع الإلكترونية ومزادات بيع الآثار وصالات العرض في مختلف دول العالم ومن ثم المطالبة بها بالطرق الدبلوماسية. وأشار إبراهيم إلى أن هناك فريق عمل من وزارة الثقافة والسياحة والآثار ووزارتي الخارجية والداخلية والبعثات العراقية في الخارج يعمل بشكل متواصل على استعادة كل قطعة أثرية يتم العثور عليها في أي دولة بالعالم. -- دبلوماسية الاسترداد وفي إطار جهوده لاستعادة الآثار المنهوبة والمهربة، أطلق العراق "دبلوماسية الاسترداد" لاستعادة آثاره بتضافر جهود المؤسسات العراقية ذات الصلة، لاسيما وزارة الثقافة والسياحة والآثار والمتحف الوطني العراقي، وفق ما أوردت وزارة الخارجية على موقعها الرسمي. وأوضحت الوزارة أنه "من خلال التعاون الدولي الفعال مع الدول الصديقة والشقيقة وجهود بعثاتنا الدبلوماسية في مختلف أنحاء العالم، تمكن العراق من استعادة آلاف القطع الأثرية والمخطوطات والكتب واللوحات المهمة في تاريخ العراق". وقالت مديرة دائرة الاسترداد في الهيئة العامة للآثار والتراث العراقية مروة عبد ليلو، في بيان صحفي، إن الحكومة أطلقت دبلوماسية استرداد الآثار منذ ثلاث سنوات، وأدت إلى استرجاع أكثر من 24 ألف قطعة أثرية، معظمها مسروقة ومهربة من المواقع الأثرية. وأضافت أن إدارة الآثار تقوم أيضا بمراقبة مزادات الآثار خارج العراق للتعرف على القطع الأثرية العراقية المنهوبة لرفع دعاوى قضائية بالتنسيق مع الإنتربول ضد كل من يملك آثارا عراقية في محاكم بلاده، بالإضافة إلى ذلك، هناك تعاون مع وزارة الخارجية العراقية والسفارات العراقية في جميع أنحاء العالم. وتعاد الآثار المستردة في الغالب إلى المتحف العراقي الذي أعيد فتحه أمام الجمهور لأول مرة في مارس 2015 بعد إغلاق دام 12 عاما نتيجة ما لحق به من دمار وتخريب خلال الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003. وفي العام 2019 تم غلق المتحف بسبب تظاهرات واضطرابات أمنية في العراق وانتشار جائحة كورونا قبل أن يعاد فتحه في عام 2022، ويضم المتحف 23 صالة تعرض فيها أكثر من 10 آلاف قطعة أثرية تعود لعصور تاريخية وحضارات مختلفة. -- نهب الآثار.. مسؤولية أمريكية ويحمل الكثير من العراقيين الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية تعرض الآثار العراقية للسرقة إبان غزو العراق. ومن بين هؤلاء عالم الآثار وأستاذ التاريخ العراقي القديم في الجامعة العراقية ببغداد عادل المبارك، الذي اتهم واشنطن بعدم حماية المتحف العراقي. وقال المبارك لـ((شينخوا)) "إن القوات الأمريكية كانت هناك في منطقة العلاوي وسط بغداد، حيث يقع المتحف العراقي، ولم تقوم بحمايته من العصابات واللصوص، ربما لأنه لم يكن ضمن خطتها للسيطرة على المدينة أو ربما لأسباب أخرى". ولم يكن من الممكن تحديد حجم الأضرار التي لحقت بالمتحف العراقي بدقة لأن سجلات الجرد كانت في حالة سيئة قبل الحرب وتعرضت لأضرار جزئية أثناء النهب، وفق المبارك. وتابع أنه "مع ذلك، هناك رقم رسمي تقريبي يبلغ 15000 قطعة مفقودة لم تتم إعادة الكثير منها بعد". وبعد عقدين من الغزو الأمريكي للعراق، مازال الاتجار بالآثار يمثل مشكلة خطيرة للبلد العربي، إذ تركت الفوضى وضعف الإدارة أكثر من 10000 موقع أثري في جميع أنحاء البلاد دون حماية، مما أدى إلى انتشار عمليات تنقيب غير قانونية وعشوائية وتهريب من قبل اللصوص والمجرمين والعصابات المتخصصة بتهريب الآثار. وقال المبارك في هذا الإطار إنه "لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه السلطات العراقية، بما في ذلك استمرار السرقة والحفريات العشوائية، خاصة في المواقع الأثرية البعيدة عن المناطق الحضرية وأحيانا في مواقع غير موثقة من قبل الحكومة". وأوضح "أن حماية المواقع الأثرية تحتاج إلى تخصيصات مالية كافية من الحكومة لتوظيف عدد أكبر من الحراس، بالإضافة إلى ضرورة تسييج هذه المواقع والعديد من الجهود اللوجستية الأخرى". واعتبر المبارك أن الحكومة العراقية حققت بعض النجاحات في استعادة العديد من الآثار المهربة، خاصة في السنوات القليلة الماضية، لكنها بحاجة إلى المزيد من الجهود في هذا المجال. وبجانب السرقة والنهب، كانت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مساحات واسعة من الأراضي العراقية بعد العاشر من يونيو 2014 بمثابة انتكاسة جديدة للآثار العراقية. وفي ذلك الوقت تداولت وسائل الإعلام العالمية مقاطع فيديو أظهرت مقاتلي التنظيم المتطرف، وهم يحطمون القطع الأثرية بمتحف الموصل ويجرفون مدينتي الحضر والنمرود الأثريتين في محافظة نينوى شمالي العراق، وقاموا أيضا بتهريب أعداد كبيرة من القطع الأثرية التاريخية. وبحسب آخر الإحصائيات الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة والآثار، فقد استعاد العراق أكثر من 30 ألف قطعة أثرية مهربة إلى الخارج، من بينها أكثر من 17 ألف قطعة من الولايات المتحدة الأمريكية.■
مشاركة :