يدخل عامه الجديد، وغزة تعيش معركة مع العدو وعموم فلسطين، هي الأشد في التاريخ من حيث الزمن والمساحة والإبادة الجماعية، إيمانه بالشعر حيّ يقيم ترانيم الكلمة، يبني وجدانية الأغنية والقصيدة، سميح القاسم، الشاعر الفارس كما يناديه رفيقه محمود درويش، والذي كتبه له يوماً في ذكرى ميلاده الستين "منذ نهضنا معاً من قاع النسيان إلى الذاكرة الجماعية، اختلط اسمك واسمي في عفوية الأخطاء الشائعة، وفي السجون تعلمنا أول درس النقد إذ يُسمى فلسطين باسمها الأسطوري والواقعي". يمر ميلادك وأنت في عالم ليس بعيد، ربما هي محاولة أخرى لكتابة جديدة تبحث عن عالم في كينونة تخلو وتتحرر من الاستعمار وسلطات الموت الاستعماري والاحتلال إلى مطلق الأبدية الحرة، لتكتب لجرحك الخاص وجراح فلسطين وأطفالها، وميلادك 11من أيار/مايو، شهر الميلاد عام 1939خارج الوطن، في مدينة الزرقاء بالأردن، حين أصبحت مأساة البعد والحنين رمزية شاعر المكان منذ طفولته، ورسائل حملته إلى الوطن وعاد فعلاَ شاعر المقاومة، مسارات الشعر يكتبها ليس لفلسطين فقط بل للعالم الأوسع، ليضع قصائده الأولى على الرعد والحرية " أغاني الدروب، دمي على كفي، دخان البراكين، أطفال رفح، طائر الرعد،مواكب الشمس،رحلة السراديب الموحشة، الموت الكبير، ملك أتلانتس ومسرحيات أخرى" كَتبَ الشعر كنغمة تنوعت مفرداتها وعروضها، من العمودي والنثري إلى المسرحيات القصيرة والطويلة، وصولأً إلى الكتابة الروائية والكولاج المسرحي، هذه التجليات الفنية في عوالمه الراسخة بصوته وقلمه تظهر معانيها الفكرية والإنسانية الوطنية، في الرسائل المتدفقة مع محمود درويش كما عنونها إميل حبيبي" هيك مشق الزعرورة يا يُمه هيك " بين شطري البرتقالة الفلسطينية، والظاهرة الاَخرى في اتجاهاته الدرامية والرومانسية، والكتابة التسجيلية؛ أخذت مفهوم التجديد والصلة بين القديم والحاضر في نصوص تعدد أشكالها الأدبية، هو الشاعر المقاوم، يصطاد الكلمة من لقاح الزهر في لياليه الصيفية، يصنع الحروف بينه وبين الطفل والمرأة والسجين، وكل ماهو فلسطيني ينتفض بشهوة الثائر على جرحه، ولا ننسى أن لسميح القاسم تجربته في السجون الإسرائيلية، حين اعتقل لأكثر من مرّة عندما عاد إلى فلسطين، ليكون ذلك تمسكاً خارجاً من السياقات الشعرية والموهبة إلى تشكيل المعشوقة بالأرض في وجدانه، ويقول" أنا أنتِ .. أنتِ أنا .. وكُل يَد بيني، وبينك ..ألف مَجنونة " في هذا السطر يعانق الأصرار بالموهبة بين الشاعر والهوية، لجرح لم يزل ينزف كأمراة تعانق طفلها الرضيع تحت ليالي الحرب والنكبة، ويُعبر في اتجاه الأسف لتشكيل صورة الإنسان الذي يبكي وطنه ويضع قصيدته المشهورة " أنا متأسف" وقد أوضح نبيه القاسم، القصيدة جاءت لترد على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة حرب 2008،مدافعاً عن فلسطينيته وشعره الحاضر من خرائب الإحتلال المتواصل. وفي الحرب الإسرائيلية الاستعمارية الواقعة منذ أكتوبر/تشرين الثاني عام2023 والعدوان المتواصل إلى اليوم على غزة، تنهض أرواح نصوصه من جديد، صامدة كالملايين من الأرواح والأجساد، تصرخ بروح نصّه المعانق أطفال رفح، فكتبَ لهم وكَتبَ إلى غزة وبكى وصمد مع صمودها الحيّ الواقعي في زمن الأسطورة الفلسطينية المواجهة جغرافيات الحركة الاستعمارية في فلسطين المحتلة، سجل سميح القاسم إلى أطفال بلاده من النهر إلى البحر حتى رفح وأطفالها، قصيدةً في السجل الفلسطيني ليوميات المقاومة العادلة وكفاحها المشروع. إلى أطفال رفح كَتبَ سميح القاسم... للذي تقصف طياراته حلم الطفولة للذي يكسر أقواس قزح.. يعلن الليلة أطفال الجذور المستحيلة يعلن الليلة أطفال رفح.. نحن لم نبصق على وجه قتيلة بعد أن ننزع أسنان الذهب فلماذا تأخذ الحلوى وتُعطينا القنابل ولماذا تحملُ اليُتمَ لأطفال العرب بلغ الحزن بنا سن الرجولة..! وعلينا أن نقاتل. شجر الفتنة مسكور، وأبواب رفح خُتمت بالحزن أو بالشمع أو حظر التجول.. وعليها كان أن تنقل خبزاً وضمادا لجريح، بعد نصف الليل عادا وعليها كان أن تقطع شارع رصدته أعين الأغراب والريح، وفوهات المدافع" في حالة سميح الشاعر الفارس صدقت العاطفة مع الجرح، لتخلق نصوص شعرية على أوجه التحديد أمتزج فيها الأمل والحب، يقول الدكتور عبد القادر القط " يحس من يقرأ دواوين سميح القاسم بأنه أمام شاعر صريح القول، لا يداور في التعبير عن انتمائه و اَرائه في الدين والسياسة "ويتناول الدكتور القط، حالة الشاعر في قصيدته الرومانسية النضالية "تعالي لنرسم معاً قوس قزح " هذه الكلمات ولدت داخلها بواعث الأمل والحب، للخروج من شباك المأساة والأحساس بالانكسار، تصور عن وجدانية شاعر عربي متأصل بجرحه الإنساني وانتمائه للأرض العربية، صحيح أن للشعر كما المسارات الأدبية اتجاهات تتعدد من الحداثة الى ما بعد الحداثة، والمتغيرات التي تُصيب البلاد، سميح القاسم شاعر وضع الكتابة بين أقواس المتغيرات الاجتماعية والسياسية والرومانتيكية كحالة حضور وجداني تأكيد للجواهر الذاتي الذي يلمس القارئ منذ تشكلت كتاباته الأولى، وأصبحت رموز شعرية تُستخدم في البلدان والعواصم العربية، لتتحول إلى أيقونة في حركات الاحتجاج الشعبي والحركة الطلابية والشعبية، وهو ما جعل فلسطين حاضرة في هذا الوجدان العالمي مهما تباعدت خرائطه الجغرافية. منتصب القامة لم يزال يمضي نحو حلمه الأكبر، فلسطين، رافضاً الخروج من حاضنة الحلم، لتبقى الهامة مرفوعة منتصرة تُكمل الانتصار المتحقق، على خطى الرفاق في مواكب الشمس، من الرامة الفلسطينية مدينته إلى كل بيت وقرية فلسطينية، الفقدان الوحيد أن سميح شاعر الثوار والعاشقين والأطفال تأخر من حيث المسافة وحضر من حيث الرد بالكتابة. لم نفقد سميح الذي يقيم بيننا ويقرأٌنا الكتاب ويقول: أدركَنا الغياب، وغيّبنا الترابُ ..
مشاركة :