يعتبر النقاد رواية "نار الله" التي كتبها صاحب نوبل للآداب عام 1981 إلياس كانيتي إحدى الروائع الخالدة، التي كشفت الآثار المدمرة للحرب في المجتمع بمختلف شرائحه الاجتماعية، حيث تتفاقم الأزمات الاقتصادية وتختل القيم الإنسانية، فالرواية التي كتبت ونشرت في فترة من أشد الفترات التي مر بها العالم كارثية، حيث وقعت الحرب العالمية الأولى التي أعقبها ظهور أنظمة نازية وفاشية، الأمر الذي ترك جراحا عميقة في الحياة الإنسانية، وقد انعكس على الكاتب وروايته بل يكاد ينعكس في كل جملة من جملها "إن اضطراب عالم الرواية وما يتخللها من تشتت في الشكل يتوافق بدقة مع تجربة الواقع الذي عم العالم، في قرن الحروب المجنونة وتدمير الطبيعة بالصناعة والتكنولوجيا". بطل الرواية هو البروفسيور كين، عالم فقه اللغة وعالم الصينيات الشهير والبالغ من العمر أربعين عامًا والمنعزل وغير مهتم بالتفاعل البشري أو الجنسي، راضٍ بحياته الرهبانية المنضبطة للغاية في شقته التي تصطف على جانبيها الكتب في فيينا. يستخدم أقل قدر ممكن من الأثاث، لإفساح المجال لتجوله في غرفته المرتفعة، والنوم على أريكة صغيرة. يقتني كتبًا ذات قيمة أعلى من حياة الإنسان، ويصبح مهووسًا بحماية مكتبته التي يتخيلها أكبر مكتبة خاصة في المدينة. يرفض كين رفضًا قاطعًا الخزي والفجور في العمل من أجل المال، ويعيش على ميراث من والده منذ أكثر من عقد من الزمن. وهو ينشر مقالاً أو مقالين كل بضع سنوات، يسعى المجتمع الأكاديمي الأوروبي إلى إقناعه باستمرار بقبول العديد من المناصب الأكاديمية، لكنه منغمس في دراسته متجنبا الاتصالات الاجتماعية والجسدية. إنه مهووس في جهوده لتجنب التلوث. تبدأ الرواية بمحادثة بين كين وتلميذ في الشارع يُظهر اهتمامًا شديدًا بالنصوص الصينية. وبالتالي يدعو كين الصبي لرؤية مكتبته. يندم على الفور على الدعوة وعندما يأتي الصبي، تقوم تيريزه، مدبرة منزل كين، بطرد الصبي من الشقة. كين ممتن لها ومعجب بهذا التطبيق الصارم للقواعد المحيطة بمكتبته. لقد أبدت اهتمامًا بالتعلم، وأقرضها على مضض الكتاب الأكثر إثارة للإعجاب في مجموعته، معتقدًا أنها ستدنس الطبعات الأجمل. وعندما يرى أنها تعامله باحترام أكبر منه، يقرر الزواج منها، متخيلًا أن مكتبته في أيد أمينة. في طريق عودته إلى المنزل من حفل الزواج، تراود كين، وهو عذراء، تخيلات قصيرة ولكن مكثفة حول إتمام الزواج، مما يكشف عن جهله بالجنس بالإضافة إلى أفكار مزعجة حول النساء (كراهية النساء هي واحدة من أكثر المواضيع انتشارًا في الكتاب، وعادةً ما تؤدي إلى تدهور وسقوط الشخصيات، على الرغم من عدم إدانتها صراحةً من قبل السرد). قدم المترجم كاميران حوج للرواية التي صدرت عن دار المتوسط بدراسة تحليلية كاشفة عن الأوضاع التي عاشها كانيتي وتجليات الرواية على مستوى الرؤية والأفكار والأسلوب والتقنية، يقول "مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والتضخم المالي، سقط المجتمع الرأسمالي بأكمله في حالة من الفزع والفوضى. صدم كانيتي بـ "الأشخاص السطحيين في مرحلة التضم الذي لم يكن لديهم هم سوى المال.. لم أشعر قط بقلق في دواخل الناس أكثر مما كان عليه في هذه الأشهر الستة".(كانيتي: المشعل في الأذن). لم يتأثر كانيتي فقط بالأشخاص العاديين في مرحلة ما بعد الحرب، بل صدم أيضا بالمثقفين، بالفنانين والأدباء الذين التقى بهم لاحقا في بلالين في عشرينيات القرن، تركت فيه إقامته في برلين انطباعات مخيفة، فقد كشفت له عوالم مضطربة، "جنونية" بخلاف عالمه الهادئ في فيينا. ويرى أن تعدد الشرائح الاجتماعية التي شاهدها كانيتي في برلين تحديدا، وتنافرها، انعكسا في الرواية في ظاهرة التباعد الشديد بين أذهانمختلفة، لا أحد يفهم الآخر، بل تكاد جميع الشخصيات أن تسئ فهم بعضها البعض لأنها لا تعرف التعاطف. لا أحد يستطيع أن يضع نفسه في مكان الآخر. لقد انكفأ كل فرد على ذاته، يريد اقتناص ما قد يتمكن منه، دون أن يعبأ بقيم عامة، انعزل كل فرد عن الآخرين، ولاذ ضمن شبكة اجتماعية متحللة إلى ما يظن أنه الحقيقة، الحقيقة المفيدة له وحده. صار للحياة رهبة كالتي عبر عنها كافكا. إنها ليست كراهية العالم إنما الرهبة منه. التساؤل في مضمونه.ما ينعكس في الفصل الثاني من هذه الرواية، حيث نرى عالما يتأثر بواقع مخيف، منفصل عن واقعه هو، لكنه يتغلغل في صميم روحه ويقلب كيانه الهادئ، اللامبالي بالعالم الواقعي متحولا أو ممسوخا إلى تمثال، كما يتصورها. هنا تصل السخرية اللاذعة ذروة من ذراها ويغدو الشك، الشك وحده، في كل شيئ، في الأسس والقيم، تعبيرا عن عدمية شاملة. ويضيف حوج أن الرواية بنيت على ثلاثة أجزاء "رأس بلا عالم"، "عالم بلا رأس"، و"عالم في الرأس". وقسم كل جزء منها إلى فصور فرعية. يبدأ الجزء الأول بحديث بين مثقف متغطس وصبي في التاسعة من العمر، وينتهي الجزء الثالث باحتراق المثقف، تبدأ بسؤال وتنتهي بجواب يجده المثقف حلا نهائيا لكل الأسئلة. الزمن في الرواية تصاعدي، تتطور الأحداث بتسلسل وروية، دون أن تدفع هذه الرواية إلى الملل أو توقع لما قد يحدث في الفصل التالي، لأن الجملة الواحدة قد تنبئ أحيانا بعدة مصائر متباينة. والمؤلف يقفز بين الجملة والجملة التي تليها مثل بهلوان، تتوقع منه النجاح كما تتوقع أن يسقط في كل لحظة أو ينقطع الحبل، ذلك هو الخيط الذي يربط الحبكة. ويتابع أنه في الجزء الأول يعرفنا كانيتي على شخصية أعظم علماء الصينيات في حياته اليومية المحددة بصرامة تضعه في عزلة قاتلة، وتجعله كارها للبشر والواقع. وفي الجزء الثاني تبلغ الفوضى ذروتها حين يختلط المثقف المنعزل ببشر حقيقيين في مدينة حقيقية خارج أسوار رأسه. في الجزء الثالث تصوير حدي للفشل في محاولة استعادة ذلك العالم في الرأس بعد أن تبين أن الجنون سيطر على البشرية . قبل وصول هتلر إلى السلطة كان السرياليون قد دعوا علماء النفس والأطباء إلى إخلاء سبيل مرضاهم، لأنه لا يستطيع إلا الاعتباط وضع حد بين "الذهان والواقع". ويشير حوج إلى أن كانيتي يحاول عرض ذلك العالم البارانوي في صياغة روايته. يضع نظما جنونية بعضها جانب البعض الآخر، تتصادم لتؤدي من ثم إلى تلك السريالية، إلى جنون العالم. من عناوين الأجزاء لا يظهر البناء الواضح الصارم للرواية فقط، بل تتبدى حبكة الرواية ذاتها، التي أرهق الكاتب نفسه في بناء كل جملة من جملها محاولا مرة البلوغ باللغة إلى ذروتها، ومرة الهبوط بها إلى المحكي. عمل كانيتي كثيرا على تحوير اللغة، لذلك يتعثر القارئ أحيانا بالجملة. عمد مثلا إلى تغيير قواعد علامات الترقيم أو تحوير الأمثال الدراجة، سواء الشعبية أو الحكم المقتبسة من الفلاسفة أو تراث الشعوب الأخرى، وتحديدا منها البائد. ويقول "بالتركيز على الشخصية الرئيسية، دودة الكتب كين، نراها تتشظى في الجزأين الأولين بإحالة من عنوانيهما، إذ تتمزق في الجزأ عالمه الذي أسسه في رأسه، ويختلط في الجزء الثاني ببشرية "بلا رأس". وبمحاولة الجمع بين عالميه في عالم واحد في الجزء الثالث يحدث الانفجار الأولى. بين عالمين ربما حربين، كان أولهما تمهيد للثاني، ينهك كين بحيث لم يعد بإمكانه التصالح مع نفسه، إلا بالرغبة في إعدام نفسه، بالتخلص من الانفصام بإشعال النار بنفسه وبمكتبه، ربما يريد الكاتب أن يشير إلى تطهير ما، عماد بالنار، حرب، ينهي خراب العالم ليبني من جديد. فرغم محاولة الأخ الباريسي، الطبيب النفسي، في معالجة كين وإعادته إلى شقته، لينعم بالحياة السابقة، المنعزلة قبل أن تختلط بالعالم الواقعي، لم يعد عالمه إلى ما كان، لم تعد النفس قادرة على التوحد بعد تشتتها، وفصامها يؤدي بها بالنتجة إلى أن تحرق كل عالمها، حيث التحول الكلي بالمفهوم الكافكاوي كما طرحه كانيتي. وينقل حوج عن كانيتي قوله عن شخصيات الرواية "كان العمل الأساسي الذي تفرغت له محاولة غاضة لأن أبتعد عن نفسي، طرحت شخصيات لديها طريقتها الخاصة في الرؤية، غير قادرة على التحرك، إنما دائرة مشاعرها وأفكارها محصورة في قنوات معينة". ويوضح "على عدة أقطاب بلغ كانيتي بشخصياته إلى أقصى مدى من الحدية يقول "كلما اختلفت بعضها عن البعض الآخر، وكلما زادت تطرفا، ازداد التوتر والتشاحن بينها". تمثل كانيتي في طرحه الكاتب الروسي غوغول "كنت متأثرا بالدرجة الأولى بغوغول.. جعلتها شخصيات مضحكة ومرعبة في الآن ذاته، بحيث لا يمكن التمييز بين المضحك والمرعب أبدا". لكن شخصيات كانيتي لا تعدم أصولا واقعية، فشخصية القزم "فيشرله" الذي يحلم بالاحتيال على كين والسفر إلى أمريكا ليصبح بطلًا للشطرنج، مأخوذة عن صديق له كان يتردد على قاع المجتمع ويعرف تفاصيله "لم يكن لديه أي اعتراض على عنف قزم الشطرنج، وما كان هو ذاته سيتردد مطلقا إذا حانت له الفرصة لاسترداد قطعة. لم تكن تيريزه مبالغة، فقد عرف أقسى منها". حسب كانيتي أنه وجد شخصية تيريزه في شخص مؤجرة سابقة "تحدثت في التفاصيل مع ربة المنزل عبر نافذة مفتوحة، كانت تنورتها تصل إلى الأرض، رأسها مائل وتقذفه بين الحين والآخر على الناحية الأخرى. بحذافيره انعكس أول خطاب لها في الجزء الثالث من الرواية: عن شباب اليوم وتضاعف سعر البطاطا". ويختم حوج لافتا إلى سوزان زونتاغ تجد في الرواية "طريقة استثنائية خلاقة في كره النساء" ويعبر عن هذا الرأي استخدام الشخصيات حتى كين المثقف في لحظات غضبه، لمفردة "الحرمة" في خطابها. ما قد يبدو مستهجنا لقارئ/ة اليوم، لكنه يعبر تماما عن "لغة" ذلك الزمان كما يعبر عن القناع السمعي الخاص بكل شخصية. كما ترد في الرواية مفردات وتعابير أخرى مستهجنة اليوم مثل "الزنوج" لكنها في زمن الرواية كات مستخدمة في جميع الأفواه والكتابات.
مشاركة :