مسلمات ما أنزل الله بها من سلطان

  • 5/27/2024
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تقف المسلمات في أحيان كثيرة عائقا أمام الحقيقة؛ فتعمي البصر والبصيرة عن رؤية ما هو واضح دون حجج ولا أدلة ولا براهين، وعادة ما تتكون تلك المسلمات أثناء التنشئة؛ داخل الأسرة، أو على مقاعد الدراسة وفي حلقات العلم، أو في أحضان الرفقة إن حلت بديلة عن الأسرة والوالدين والمعلمين، وبعض تلك المسلمات جمعية؛ تتشكل من خلال توارث العادات والتقاليد والقيم والأفكار؛ فتنغرس في أعماق العقل الجمعي، ولا يستطيع فرد من أفراد المجتمع رفضها أو مخالفتها أو حتى التصريح بعدم اقتناعه بها، ولا يملك الجميع إلا التسليم بها والاستسلام لها، ولا سيما في المجتمعات البدائية والجاهلة، وما شابهها، تلك المسلمات غالبا هي التي منعت الأقوام قديما من ترك عبادة الأصنام والآلهة التي كانوا يعبدونها واعتناق الدين الذي جاء به أنبياؤهم؛ إذ تحولت لديهم إلى ثوابت راسخة لا يمكن الحياد عنها. وتأتي خطورة تلك المسلمات من أنها تتعامل مع عقول لا تفكر، وقلوب لا تفقه ولا تتدبر؛ ولم تدرب على ذلك، وهي تفترض مسبقا توقف العقل والقلب عن العمل وتصدير الانفعالات والعواطف المضللة بدلا عنهما، والمسلمات كثيرة ولكن أخطرها المسلمات الدينية؛ لأنها بالنسبة إلى أغلب البشر خط أحمر لا يمكن تجاوزه ولا مناقشته، وهذا -مع الأسف- لأنهم يخلطون الثوابت الحقيقية المنزلة من رب العالمين بالمسلمات التي يصنعها البشر، ويحولونها إلى ثوابت يعممونها على الجميع، تلك المسلمات هي التي فرخت الجماعات الضالة والإرهابية التي أساءت للإسلام والمسلمين وللبشرية جمعاء، ومن تلك المسلمات الخطيرة التي نشاهدها اليوم على سبيل المثال وتحتاج إلى وقفة ومناقشة التسليم بصلاح وكمال كل من يؤدي الصلوات جميعها في المسجد، مع أن الواقع يحوي أمثلة كثيرة لنقيض ذلك، إلا أن هذه المسلمة استقرت في العقل الجمعي؛ فلم تؤثر عليها الجرائم التي ارتكبتها فئة ضالة من بعض مرتادي المساجد بصفة دائمة، ولم يؤثر عليها سوء خلق يصدر منهم، ولا كذب، ولا تزوير، ولا غش، أو أي عمل سيئ يقوم به أحدهم في بيته، أو في عمله، أو في أي مكان آخر؛ بل تكفي صلاته في المسجد لتبرئته من كل ذنب وتزكيته لكل أحد، ومع أن الله -سبحانه وتعالى- قال في كتابه العزيز: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾؛ بمعنى أن من يصلي يجب أن تنهاه صلاته عن ارتكاب الفواحش والمنكرات، ومع ذلك يظل العقل الجمعي يمجد من يرتاد المسجد وإن كان يرتكب المنكرات؛ فيتلفظ بألفاظ بذيئة، ويشتم، ويقذف، ويعتدي على أقرب الناس إليه أو على غيرهم، ومن ذوي الوجهين، ويخون الأمانة، ويزور على اختلاف أنواع التزوير واختلاف مسمياتها التجميلية، ويظل يلتمس له الأعذار، والمشكلة ليست هنا فقط؛ فقد يكون هذا جهلا من الشخص، ثم تسدى له النصيحة فيستجيب أو يستتاب فيتوب، ولكن المشكلة الحقيقية أن يقضي ذلك الشخص عمره هكذا أمام أهله وزوجته وأبنائه وأصدقائه، وزملائه، ومعارفه، ومرؤوسيه وطلابه وعمالته، ومن هم حوله؛ فيؤتى الدين من قبله، ويظن الناس - ولا سيما من هو قدوة لهم أو من هو قائم عليهم - أن هذا هو الإسلام؛ فيكفي أن تصلي في المسجد بصفة مستمرة ويراك الناس، ثم يحق لك أن تفعل ما تشاء؛ فتذهب إلى عملك متأخرا ثم تزور التوقيع أو لا تذهب فيزوره لك صديقك؛ لا بأس، تكذب لتنجو من مشكلة دنيوية؛ لا بأس، تغش الناس، تغش رؤساءك، أساتذتك، طلابك، زوجتك، أبناءك، عمالتك؛ لتفوز بما تريد؛ لا بأس، تشتم هذا وتنال من عرض هذا، وتهين هذا؛ لا بأس؛ فلديك ضمان بأنك غير مؤاخذ على شيء أبدا، وبكل أسف يتجرأ بعضهم على الاستشهاد بقول اختلف في صحته منسوب إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم-» إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان»؛ لتبرير أقوالهم وأفعالهم وإقناع الآخرين بإيمانهم. ومن تلك المسلمات أيضا أن حافظ القرآن يجب أن يكون قرآنا يمشي على الأرض، والحقيقة أننا كبرنا على هذا، حتى واجهنا الواقع بمن تكاد تقتصر علاقتهم بالقرآن على حفظ حروفه أو تلاوتها، فلا صدق، ولا أمانة، ولا نزاهة، ولا حسن خلق، ولا وفاء بالوعد، ولا حياء، ولا تورع عن إيذاء الآخرين، ولا حتى محاولة الحفاظ على صورة حافظ القرآن أمام من حوله، وأيضا ليست هذه هي المشكلة فقط؛ لأن ﴿كل نفس بما كسبت رهينة﴾، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن مثل هؤلاء هم من يؤتى الدين من قبلهم وعن طريقهم، هم من يسيئون إلى صورة الإسلام والمسلمين ويشوهونها؛ فيظن المسلمون وغير المسلمين أن هذا هو الإسلام، والإسلام من تصرفاتهم بريء. ومن المسلمات الخطيرة جدا ولا سيما على الناشئة أن كل ما ورد على لسان أحد الدعاة، أو في كتب السيرة، أو في محاضرة، أو في خطبة، أو قول ضعيف أو موضوع أو لم تثبت صحته سبق بعبارة «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» أو «جاء في الحديث» أو «روي عن فلان»...، كل ذلك وأمثاله مختوم بصحته، والحقيقة أن القائلين بشر قد يخطئون، ولكن خطأهم مصيبة ووبال على من حولهم ولا سيما من لا يعمل عقله ومن يتلقى كل ما يسمع باطمئنان بليد، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يروى عن قتل أحد الصحابة لأبيه والاستشهاد به في معرض محبة الله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفي معرض الاستشهاد على الإيمان الصادق، ولا أستبعد أن هذه الرواية وأمثالها كان لها أكبر الأثر في الحوادث البشعة التي ارتكبها بعض الضالين في حق والديهم وأقاربهم، وهذه فتنة عظيمة لا مجال للخوض فيها هنا، وإنما المراد عرض تلك المروية وأمثالها على الآية الكريمة ﴿وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا﴾، إذ كيف يتم التوفيق بين تلك المرويات وبين هذه الآية على سبيل المثال؟؛ بل كيف يتم التوفيق بينها وبين الآيات التي تقرن التوحيد بالإحسان إلى الوالدين بغض النظر عن الاتفاق معهما أو الاختلاف في الدين ﴿ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما﴾؟، وهذا مثال فقط مما يؤخذ بصفته مسلّمة لأنه ورد في معرض محاضرة أو ندوة أو كتاب محتفى به أو منسوبا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - موضوعا عنه أو لم تثبت صحته، وعلى الرغم من انتشار الوعي وتعدد المواقع التي تهتم بتمييز الأحاديث الشريفة الصحيحة من غيرها، إلا أنه لا يتوقع من الجميع العودة والتثبت ولا سيما الناشئة، وإن كان من أوجب الواجبات التي تقع على عاتق الوالدين والأسرة والمدرسة والمجتمع تربية النشء على التفكير الناقد والتثبت من صحة ما يسمعون وما يقرؤون وما يشاهدون، وعدم قبوله بصفته أمرا مسلما به ما لم يقم عليه دليل أو يدعمه برهان، وتحمل مسؤولياتهم تجاه توعية الأبناء والبنات، ومناقشتهم، وتنمية حس البحث العلمي لديهم وتبصيرهم بأساليبه الصحيحة؛ إذ لم يعد مقبولا قمع الأبناء في المنازل، والتلاميذ والطلاب في المدارس والجامعات باسم الأدب والتهذيب، أو تخويفهم من النقاش وترهيبهم بإنقاص درجاتهم، أو السخرية منهم، أو بأي شكل من الأشكال؛ لأن ذلك يؤدي إلى تنشئة إمعات يقبلون كل ما يسمعون ويقلدون كل ما يرون دون تفكير؛ أو ضالين متمردين ناقمين ساخطين على كل شيء، وكلا الفريقين وبال على نفسه وأسرته ومجتمعه ووطنه ودينه. يتحمل الخطاب الديني جزءا كبيرا من المسؤولية في توعية أفراد المجتمع على اختلاف فئاته بالفرق بين الثوابت الدينية التي جاء بها الخطاب الشرعي المقدس القرآني والنبوي وبين المسلَّمات البشرية التي ولدها الخطاب البشري على اختلاف أنواعه ومقاصده، وتبناها العقل الجمعي لتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، وتتبناها؛ ظنا منها أنها جزء من الإسلام، والإسلام منها براء، وكذلك يتحمل مسؤوليته العالمية في إيصال صورة الإسلام الحقيقية نقية خالية من شوائب المسلمات التي ما أنزل الله بها من سلطان. وأخيرا؛ فهذه رسالة إلى كل من هو في مقام القدوة ولاسيما ممن تتشكل الأفكار والمعتقدات والمبادئ والقيم على أيديهم، وتبنى من خلال أقوالهم وأفعالهم، سواء أكانوا ممن وردوا سابقا في المقال أو من غيرهم من الآباء والأمهات والمعلمين والمسؤولين في كل مكان؛ فكروا ألف مرة-قبل أي قول أو فعل- في مقامكم ومسؤوليتكم تجاهه وتجاه من أنتم قدوة لهم-بوعي أو بلا وعي- شئتم أم أبيتم، ولا تكونوا الثغرة التي يؤتى أبناؤنا ومجتمعنا ووطننا وديننا منها.

مشاركة :