في المدينة المنورة.. ضيوفٌ يغالبون دموع الشوق والفرح

  • 6/7/2024
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تشرع المدينة المنورة أبوابها كل عام لاستقبال طلائع قوافل الحجاج وآخرها، في موسمين يسبق الأول أداء مناسك الحج، وفي مطار طيبة الطيبة تبدأ الرحلة الإيمانية العظيمة، وتتجلى مشاهد فياضة عميقة ترافق ضيوف الرحمن الذين يغالبون دموع الشوق والفرح، للبلدة الطيبة الطاهرة التي تحمل بين جنباتها تاريخاً روحانياً عريقاً، وتراثاً روحياً متضوعاً بسكنى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وما إن يصل الحاج للمسجد النبوي حتى يحث الخطى نحو البقعة المقدسة والروضة الشريفة التي لا تخلو من قائم وساجد، ومتضرع ومبتهل إلى الله عز وجل، وإلى المواجهة الشريفة حيث زيارة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام، وصاحبيه الصديق والفاروق رضوان الله عليهما، وكأنهم يستحضرون مناجاة شاعر المدينة المنورة محمد الخطراوي -رحمه الله-: ورحاب كأنها جنة الخلد بأفيائها يطيب وجودي والمرايا في كل صوب صلاة وخشوع ومحفل للخلودِ أضواء من الخلود وعبق من المجد، وعبير من المحبة تأسر القلوب، وتستهوي المهج، في مأرز الإيمان بجلالها وشموخها، مشاهد عظيمة في كل أجزاء المكان العظيم، روحانية وخشوع لا تصفها الحروف والكلمات تعيشها دار الهجرة النبوية على مدار العام، وفي موسم الحج، يرويها الحرم الشريف، ومسجد قباء وبقيع الغرقد ومزار سيد الشهداء وجبل أحد، ووادي العقيق والخندق وبئر عثمان والكثير الكثير من الأماكن التي توقف الزمن عندها طويلاً ليروي لكل زائر، كيف استمدت الأرض قدسيتها من السماء، وكيف سطر الرعيل الأول أمجاداً من التضحيات لنشر رسالة الإسلام والتسامح، كل ذلك تعكسه المدينة المباركة بغناها الروحاني ومآثرها الجليلة، ومعالمها المكانية والحضارية لتخالج بعظمتها القلوب والأبدان، بمساجدها العتيقة وفضاءاتها الرحبة، ومتاحفها الثقافية ومزاراتها ومواقعها، يستنشق طهرها ويتفيأ ظلالها الحجيج والزوار، لتبقى تجليات المكان والزمان قصصاً ملهمة للأجيال وتاريخاً من الحب الإيماني الذي سرى في قلوب المسلمين منذ بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم. روضة ومنبر وما إن يطأ الحاج والزائر بقدميه تربتها الطاهرة، يستنشق عبير الإيمان، يحس برهبة الموقف وعظمته، وتشع أنواره وقدسيته، يسرع الخطى نحو الحرم المبارك يحمله الشوق للصلاة في الروضة الشريفة التي تواترت النصوص على فضلها ومكانتها فهي من "رياض الجنة"، كسيت بفراش أخضر قشيب يتقدمها محراب النبي صلى الله عليه وسلم، ويميل عنه يميناً منبره الشريف، وإلى الشمال حجرات أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، ومع ارتفاع أكف تكبيرة الإحرام يعيش الطمأنينة والسكون، وهو يقرأ بفاتحة الكتاب ثم ينحني راكعاً وساجداً يتقرب إلى الله عز وجل بأعظم ما افترضه عليه من العبادات حتى يتم ركعتي التحية فيلهج بالدعاء الخاشع إلى الله جل وعلا، الكل إلى جواره يعيشون مشاعره، وتتسابق عبراتهم بصدق التوبة والإنابة، عندها لا يتمكن أحد من حبس دموعه لتغسل ما مضى من حوبة أو ذنب بطهر الخلاص من شؤمها، يستذكر من أوصاه بالدعاء وهو ميمم نحو الديار المقدسة، فيمنحهم ذات الأماني التي رجاها لنفسه، هكذا يستلهم ذكريات الرحلة الإيمانية التي تمتد أياماً إلى أطهر مكان. مواجهة شريفة وما هي إلاّ لحظات حتى يأخذ الحاج والزائر بمجامع قلبه فيفيض الإيمان ويدب في كل جزء من جسده، لا تكاد تحمله قدماه، وهو يقف قبالة المواجهة الشريفة ليسلم على النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: "السلام عليك يا رسول الله، ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك أديت الرسالة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده"، ثم على صاحبيه العظيمين أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق -رضي الله عنهما-، لحظات من الخشوع تهرق فيها الدموع لترسم طهر الصحبة بين النبي الخاتم وصحبه الكرام الأماجد، جهاد وشظف وأزمنة من العسرة دفاعاً عن المبادئ الحقة في وجه عصابات الظلام والكراهية، والاستبداد والعنصرية المقيتة، كل شيء في المكان يحمل في جعبته الكثير من الأحاديث: "المحاريب الثلاثة، خوخة الصديق، الإسطوانات، الأبواب، القباب، الزخارف، الدكات، البناء والإعمار، والتوسعات المتعاقبة للخلفاء والملوك"، وعلى بعد أمتار محدودة وبعد الخروج من المواجهة نحو الشرق يبرز "بقيع الغرقد" سور كبير يختط أرضاً مباركة يحظى كل من وسد فيه بشفاعة خاصة تواترت بها الأحاديث والروايات الصحيحة، تضم هذه البقعة في ثراه الطاهر أكثر من عشرة آلاف من آل البيت الكرام والصحابة رضوان الله عليهم، ويتمنى كل مسلم أن يختم له بالدفن فيها، وتشير المصادر التاريخية إلى أن أول من دفن في البقيع وكان بستاناً من أشجار العوسج هو الصحابي الجليل عثمان بن مظعون -رضي الله عنه- ثم دفن إلى جانبه إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك رغب المسلمون في المكان، رجاء الشفاعة والدعاء المستجاب، ففي الأثر أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد". مساجد ومعالم وحول ساحات المسجد النبوي الشريف إلى الجنوب الغربي منه تتراءى مساجد أثرية أعيد بناؤها وترميمها مرات عديدة كمساجد الخلفاء الراشدين أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب -رضوان الله عليهم أجمعين- ومسجد الغمامة مصلى العيدين والاستسقاء في العهد النبوي، وعلى بعد أربعة كيلومترات جنوباً، يبرز المسجد المبارك محطة المقدم الشريف لأعظم موكب عرفه التاريخ، أول مسجد أسس على التقوى "مسجد قباء" حيث أصداء أهازيج الأنصار المرحبة بالحبيب صلى الله عليه وسلم: "طلع البدر علينا من ثنيات الوداع"، الكل يريد أن يحظى بضيافة خير من وطأ الثرى حتى بركة الناقة فنال أبو أيوب رضي الله عنه هذا الحظ العظيم، المسجد المبارك الذي يشهد اليوم أكبر توسعة له منذ إنشائه، والتي أعلن عن إطلاقها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- تزامناً مع زيارته للمدينة المنورة، وصلاته في مسجد قباء يوم السابع من شهر رمضان المبارك لعام 1443هـ، حيث وجه -أيده الله- بتسمية المشروع باسم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-. خصائص تاريخية والمشروع المبارك عند اكتماله سيضاعف مساحة مسجد قباء عشرة أضعاف بهدف استيعاب أكبر عدد من المصلين في أوقات المواسم والذروات، كما أنه يبرز الأهمية الدينية، ويوثق الخصائص التاريخية لمركز قباء، ويحافظ على الطراز العمراني والمعماري الفريد، حيث يعد مسجد قباء أول مسجد في الإسلام، أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم، واختطه بيده الشريفة عندما وصل المدينة المنورة مُهاجرًا إليها من مكة المكرمة، وشارك في وضع أحجاره الأولى ثم أكمله الصحابة رضوان الله عليهم، وكان الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم يقصد مسجد قباء بين الحين والآخر ليُصلي فيه، ويختار أيام السبت غالبًا ويحض على زيارته، ووردت في فضل المسجد والصلاة فيه العديد من الأحاديث النبوية الشريفة، ومنها: "من تطهّر في بيته وأتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة فله أجر عمرة"، وتعاهد المسلمون مسجد قباء منذ تأسيسه بالرعاية والاهتمام نظرًا لمكانته، فهو من أكبر مساجد المدينة المنورة بعد الحرم النبوي الشريف، وتُقام فيه جميع الصلوات، وصلاة الجمعة والعيدين. عهد استثنائي ويُعد مسجد قباء مقصدًا لزوار وسكان المدينة المنورة، لفضل الصلاة فيه، وقد جدد المسجد تاريخياً، وحظي باهتمام كبير في العهد السعودي الزاهر، ففي عام 1388هـ رمم وجددت جدرانه الخارجية وزيد فيه من الجهة الشمالية، وفي عام 1405هـ أمر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز -رحمه الله- بإعادة بنائه ومضاعفة مساحته عدة أضعاف مع المحافظة على معالمه التراثية بدقة، فهدم المبنى القديم، وضمت قطع من الأراضي المجاورة من جهاته الأربع إلى المبنى الجديد، وامتدت التوسعة وأعيد بناؤه بالتصميم القديم نفسه، وجعل له أربع مآذن عوضاً عن مئذنته الوحيدة القديمة، كل مئذنة في جهة وبارتفاع 47 متراً، وبُني المسجد على شكل رواق جنوبي، وآخر شمالي تفصل بينهما ساحة مكشوفة، ويتصل الرواقان شرقاً وغرباً برواقين طويلين، ويتألف سطحه من مجموعة من القباب المتصلة منها ست قباب كبيرة، قطر كل منها 12 متراً، و 56 قبة صغيرة قطر كل منها 6 أمتار، وتستند القباب إلى أقواس تقف على أعمدة ضخمة داخل كل رواق، وكُسيت أرض المسجد وساحته بالرخام العاكس للحرارة، وظُللت الساحة بمظلة آلية صنع قماشها من الألياف الزجاجية تُطوى وتُنشر حسب الحاجة، وبلغت مساحة المصلى وحده 5035 متراً مربعاً، وبلغت المساحة التي يشغلها مبنى المسجد مع مرافق الخدمة التابعة له 13500 متر مربع، في حين كانت مساحته قبل هذه التوسعة 1600 متر مربع فقط، كما ألحق بالمسجد مكتبة ومنطقة تسويق لخدمة الزائرين، أما العهد الميمون لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظهما الله-، فكان عهداً استثنائياً سجلت فيه أكبر توسعة في تاريخ مسجد قباء، وتطوير المنطقة المُحيطة به، بواقع 10 أضعاف مساحته الحالية، وبطاقة استيعابية تصل إلى 66 ألف مصلٍ. عُبق الطُهر والتاريخ في طيبة الطيبة ليس كتاباً نقلب صفحاته بل حياة نتنفسها ونعيشها، وليس مجرد عبادات بدنية ظاهرة بل ترياقاً روحانياً عميقاً، يستحضر هذا من هم بزيارة شهداء أحد والجبل الأشم الذي "يحبنا ونحبه"، هناك يقف على أرض المعركة فيسمع بوجدانه صهيل الخيول ومقارعة السيوف، والنبي تكسر رباعيته، ويجرح في المعركة ويثبت بشجاعة، ويرتقي الشهداء واحداً تلو الآخر يتقدمهم عم المصطفى سيدنا حمزة بن عبدالمطلب -رضي الله عنه-، وهناك يقف بالزيارة كل حاج للسلام والدعاء في موطن من مواطن الرحمة، وكلما اتجه الزائر شرقاً وغرباً شمالاً أو جنوباً، فاح عبق الطهر والنبوءة حتى تصل به الطرق إلى ميدان الخندق، فيستحضر غزوة الأحزاب، ويسمع ضرب الفؤوس في الأرض لحماية المدينة حتى ينتصر الحق على الباطل، الزيارة لم تكتمل فصولها فهناك عشرات المواقع التي ينحني لها الزمان إكباراً وتعظيماً ما بين مساجد وآبار ودور وقصور أثرية مشهورة وعيون وآبار وجبال وأودية وثنايا وحرار، ليست مجرد آثار بل قطعاً حية من التاريخ. نظرة أخيرة وكل زيارة تبتدئ وتنتهي بالمسجد النبوي الشريف، وكل زائر يمني نفسه بالعودة، ومع وطأة السن أو المرض يكون الوداع أكثر صعوبة، هناك ببطء وتثاقل شديدين وعلى آخر عتبات الحرم الشريف تتحرك الأقدام أو الكراسي المتحركة ليلقي الحاج والزائر نظرة أخيرة على المكان الطيب المبارك؛ لأن كبر السن والمرض وظروف الحياة الصعبة لن تسنح بالعودة مجدداً، إنه آخر العهد، أو الفصل الأخير لأجواء روحانية استثنائية يعيشها مسن أو مريض، فبعد أيام ملؤها الخشوع والسكينة توضأا فيها بطهر الإيمان وجاورا سيد الأنام، حان موعد الوداع، لتغرورق العيون بالدموع، ويلهج القلب قبل اللسان بالدعاء أن يتقبل الله أعمالهما ويحسن لهما الخاتمة، لقد تاقت نفسهما أن تطول اللحظات، وأن يسترقا ما تبقى من العمر أو الصحة ليعيشا كل تفاصيل المكان بين محراب النبي الأكرم ومنبره وروضته الشريفة وحجرات أزواجه، والمواجهة الشريفة التي استحضرا قبالتها كيف يرد عليهما خير الخلق ونبي الرحمة السلام لتمتلئ كل روح بالنفحات الزكية، إنه استدعاء لتاريخ حياة ملؤها المصارحة والمكاشفة، بعد أن تسارعت خطى الأيام وتسابقت لحظات العمر وطويت جميع مراحله إنها لحظات تلامس شغاف القلب تثور فيها ثائرة المشاعر الصادقة الجياشة، إنه شريط طويل من العمر كان ختامه ذكريات خالدة لزمان ربما لن يتجدد ومكان ظلت تجلياته باقية لتروي للأجيال قصصاً من الحب الإيماني، والعشق الروحاني الذي سرى في قلوب المسلمين منذ الهجرة النبوية الشريفة. محراب النبي صلى الله عليه وسلم حجاج يقفون على جبل الرماة قبالة مزار الشهداء فرحة ضيوف الرحمن عند وصولهم مطار المدينة مسجد قباء سيشهد أكبر توسعة له منذ إنشائه استقبال الحجاج بالورود

مشاركة :