انقضت سنة 1987م سريعاً، وكانت سنة التأسيس المنهجي لهذه المرحلة التي أدخلتني عبر كثير من الصداقات والمعارف في صلب المجتمع الفرنسي، وأصبح لي من الصداقات والمعارف في أوساط جيلي من أبناء البلاد ذكوراً وإناثاً من خلال الجامعة والأصدقاء من خارجها ممن عرفتهم عبر سلسلة من المعارف بدأت في الجامعة وامتدت إلى أشخاص من فئات أخرى منهم الموظفون وأصحاب الأعمال الحرة ممن يحرصون على البناء المعرفي ويسعون إلى محاولة فهم الثقافات الأخرى وإلى الاستماع والقراءة بعيداً عن الأفكار المسبقة ومشاعر العداء العنصري الذي بدأ يجد مكاناً له في المجتمع الفرنسي مع اليمين المتطرف وزعيمه التاريخي جان ماري لوبن Jean-Marie Le Pen(1928-…..) رئيس حزب الجبهة الوطنية Front National اليميني المتطرف المعادي للعرب والمسلمين وعلى وجه الخصوص القادمون من المغرب العربي الكبير والأفارقة. كان بين من عرفتهم شاب باريسي يدرس في المدرسة العليا للدراسات الاجتماعية، اسمه فانسان يسكن بيتاً صغيراً (إستوديو) في منطقة برج إيفل في باريس ويغادر في الصيف إلى أهله في الريف الشمالي وكان صديقاً لباتربس جاء إلى ليون في عطلة منتصف العام واستقبلناه في سكننا مع فيليب أياماً كنت إبانها في غاية السعادة لأنه كان يعد رسالة ماجستير في علم الاجتماع عن أثر المباني الشاهقة في حياة سكان باريس، وكنا نتجاذب أطراف الحديث في ذلك وفي غيره من موضوعات الأدب والفن والسينما، وزرنا معا أوابد مدينة ليون وأثارها ومرت سريعا الأيام السبعة التي قضاها معنا. رافقته مع ياتريس وفيليب إلى محطة القطار مساء وزودني برقم هاتفه في سكنه الباريسي وقال: إنه يغادر في بداية العطلة الصيفية إلى أهله ويظل السكن فارغاً لمدة شهرين وشجعني على الذهاب إلى باريس في هذين الشهرين أقضيهما في ضيافته ولما انقضى العام الدراسي وكنت قد قطعت شوطاً في جمع المادة وحضور الدروس التي أوصى بها أستاذي فضلاً عن دروس تحليل الخطاب العربي للبروفسور لوقا وقدمت تقريراً مفصلاً عن ذلك للبروفسور المشرف الذي أقره وطلب أن أحتفظ به موقعا منه للتسجيل في العام الدراسي التالي 1988م. وما إن حان وقت العطلة حتى تواصلت مع فانسان وحددنا موعداً للقيا في باريس قبل أن يغادرها في إجازة. وصلت باريس هذه المرة بنفس راضية وفرحة عارمة وزاد من فرحتي أن السكن كان ملحقاً أيضاً إذا فتحت إحدى نوافذه من جهة الجنوب بدا لك برج إيفل بكل ما يكسوه من جمال ويحيط به من خضرة ومياه. كان صديقي قد رتب سفره مساء يوم وصولي وأعطاني مفتاح باب المبنى الرئيس ومفتاح الملحق ودلني على سجادة صغيرة أمام باب الملحق أترك تحتها المفتاحين عندما أغادر. أوصلني وفتح الباب لي وأخذ حقيبته بعد أن أعلمني بموجودات السكن وطريقة استخدام المطبخ والحمام ثم غادر مودعاً بابتسامة رضا واطمئنان وفرح. ما إن أصبحت وحيداً حتى سارعت إلى فتح النافذة وكان الظلام قد بدأ يلقي أستاره وشعت الأنوار من البرج المهيب وجلست أمام النافذة مستسلماً لذلك الجمال الأخاذ. مضى الوقت سريعاً وشعرت بعضة الجوع فسارعت إلى الثلاجة وكان صديقي قد أخبرني بوجود شرائح لحم بقري مع لوازم السلطة وقارورة من شراب التفاح فسارعت إلى المطبخ ولم يمض إلا وقت قصير حتى كان طعامي جاهزا فتناولته وأعدت كل شيء إلى مكانه بعد الانتهاء وعدت إلى مقعدي أمام الشباك الساحر. وفي صباح اليوم التالي استعدت نشاطي وعمدت إلى مخطط المدينة أراجع خطوط قطار الأنفاق (المترو) الذي يعد في باريس عالماً قائماً بذاته يسكنه متشردون منبوذون وبؤساء من كل الأصناف ألفوا الظلمة، فإن خرجوا إلى النور عشيت أبصارهم ووجدوا مجتمعا لم يألفوه. وكانت حياتهم وشؤونها موضوعاً لعدد من الأفلام السينمائية التي لقيت رواجاً. حاولت تحديد الأماكن التي أود زيارتها وطرق الوصول إليها؛ كانت المكتبة الوطنية في رأس اهتماماتي للاطلاع على ما تحويه من مخطوطات عربية من أهمها «الغريبين» للهروي وكنت في تلك المدة مهتما بالكتاب وجمعت عدداً من مخطوطاته وهو في غريب القرآن والحديث، مؤلفه أحمد بن محمد الهروي أبو عبيد صاحب الأزهري (المتوفى 401 هـ). كان الدخول إلى قاعة المخطوطات يتطلب إجراءات طويلة تحملتها طمعاً في الاطلاع على ذخائرها وخاب ظني عندما أخبروني بعد انتهاء الإجراءات أنه يمكنني الاطلاع على ثلاث مخطوطات فقط فكتمت غيظي، ودلفت إلى قاعة هادئة تلتمع طاولتها وكراسيها نظافة وجاءت سيدة أعطتني ثلاث بطاقات وطلبت بأدب جم تحبيرها بما أريد وجرى الأمر وجاءتني المخطوطات دفعة واحدة وجلست أتصفحها برفق. انقضى الوقت بسرعة ودونت في مذكرة أحملها ما اخترت تدوينه من معلومات وغادرت القاعة منتصف النهار إلى مقهى قريب احتسيت فيه كأسا من الشاي مع شطيرة من الجبن والخبز الفرنسي اللذيذ. وعزمت بعدها على الذهاب إلى مركز جورج بو مبيدو Centre Georges-Pompidou المركز الوطني للفنون والثقافات في وسط باريس. (والمركز معروف باسم بوبور، وبوبور اسم حي كان يقع داخل باريس ويرجع إلى عهد فيليب أوغوست.) ويستقبل قرابة الـ 30 ألف زائر يوميا في قلب باريس التاريخي، غير بعيد عن حي لي هال وفي منطقة مخصصة كلها للمشاة. حددت على الخريطة المسار والمحطات ولما خرجت من المحطة قابلتني ساحة كبيرة تنتظم على أطرافها المقاهي والمطاعم ويملأ الساحة تجمعات نلتف حول عارفين ولاعبي خفة من كل الأجناس والألوان يؤدون وصلات ترفيهية يطرب لها الصغار ويبتسم الكبار كان موقعا للبهجة تنطبق عليه تسمية مركز الثقافات. مر الوقت سريعا وكان علي أن أدلف إلى المركز الذي صمم على نمط معماري فريد ينتمي إلى نمط غريب يجعل المخفي من المباني الضخمة (المصاعد وأنابيب المياه والغار والاتصالات ظاهرا على الوجهة الخارجية ويحمل كل واحد من تلك التمديدات لونا يدل عليه). وكان أول مكان دخلته مكتبة العالم التي تجد فيها أمكنة تحتوي على كتب بلغات العالم المعروفة ومنها العربية. وجدت في جناح العربية كل ما يتخيل المرء أنه موجود من الكتب العربية، وزرت من باب الفضول أجنحة لغات كالصينية واليابانية والإنجليزية وبعض اللغات الإفريقية وحططت رحلي في موقع الكتب العربية من كل حدب وصوب ومطبوعات المستشرقين وأحزنتني ظاهرة لم أجدها إلا في الجناح العربي وهي ظاهرة التعليق على الكتب كتابة على صفحاتها مدحا وقدحا مما يشوه صفحاتها، بل إن بعض الكتب مزقت بعض صفحاتها بطريقة همجية ربما لأنها تخالف معتقد الفاعل وتوجهاته. قضيت تنتابني مشاعر مختلطة وقتا طويلا في المكتبة وفي قسم الفن الحديث وفي أقسام المركز الأخرى. لم يكن في المركز وفي إجراءات الدخول إليه وإلى أقسامه أية عوائق روتينية وإنما يشعر الزائر بالحرية الكاملة في التنقل والاطلاع على كل ما يراه ماثلا أمامه. بدأ المكان يخلو لاقتراب ساعة الإغلاق وبدأ ضوء النهار يغيب شيئا فشيئا وكان علي ركوب (المترو) في طريق العودة. عدت إلى البيت أحمل بعض مستلزمات العشاء فأعددت ما تيسّر وجهزت بعد الانتهاء كوباً من الشاي أمام الشباك السحري، وقررت في لحظة استمتاع أن أزور في اليوم التالي متحف اللوفر وإن تمكنت فالقصر التاريخي الذي وقفت على شرفته ماري أنطوانيت طالبة من الشعب الثائر الجائع أن يأكل الكاتو (قصر فرساي)، وهذا كله سيكون حديثنا في الشطرة القادمة ولنا -بعون الله - لقاء.
مشاركة :