أصبحت مسيرة ثقافة أناشيد الحج وأغانيه، في خفوت إنتاجي عام بعد عام حتى بدّت تنتهي عن مشهد التفاعل الإنتاجي، لكن تفاصيلها السابقة بقيت حاضرة عند كل الأجيال. لقد كانت الأناشيد الدينية الخاصة بالحج منتشرة على المستوى العربي في المناسبات الخاصة، التي يحتفل بها الناس، أثناء قدوم الحجاج إلى ديارهم والاحتفال في بيت الحاج بشكل تقليدي. تلك الفترة كانت قبل قدوم الإذاعات والتنافس فيما بين الفنانين لتقديم الأناشيد والحفلات الخاصة شيئاً تقليدياً. بعض الفنانين أصدر أعماله عبر الإسطوانات "القار"، هذه التنقلات كانت بمثابة الإبهار والإلهام للأجيال التي أتت بعدهم. هذه هي الحالة الفنية في الوسط العربي، والتي يستمد منها السعوديون فكرة توثيق مراحل الحج عبر الأناشيد الدينية "المموسقة". عندما أنتج الفنانين أناشيدهم الدينية، في هذه المناسبة وسجلوا أسماءهم ضمن المرحلة. الراحل طلال مداح قدم نشيد "يا حج يا مبرور" التي كتب كلماتها سعيد الهندي ولحنها مطلق الذيابي "غفر الله لهم جميعاً". بل إن طلال مداح، كان ضمن البداية السعودية في بث أعمال الحج والتي ساهم في تكوينها مجموعة من المطربين كالفنان عبدالله السلوم وسعد إبراهيم ومحمود وعبدالقادر حلواني - رحمهم الله - ومحمد عبده وابتسام لطفي التي قدمت نشيد "الحج" وغيرهم. يا حج يا مبرور.. يا خامس الأركان شهر الحرم والأمن.. جاء الحجيج فرحان أهلاً بكم أهلاً حجاج بيت الله فيه العباد تدعي.. يا رب اسقينا بير الشفاء زمزم.. يشفي العليل فينا أهلاً بكم أهلاً حجاج بيت الله. هذا قبل أن يقدم رائعته عبدالله السلوم - رحمه الله - "واقف على على باب الحرم" والتي سبق فيها مجموعة فنانين كثر، عام "1960"، كانوا كما كان يسر لـ"الرياض" في تدوين المرحلة الفنية في المملكة، يستمتعون في أعمالهم التي تواكب شعيرة الحج والمناسبات الدينية الأخرى، وأن هاجسهم هو ترسيخ خصوصية الغناء والأناشيد الدينية طالبين استمرار، هذه الثقافة التي غُيبت كثيراً عن المشهد الفني، وهو ما لم يكن يتوقعونه من الأجيال التي مرّت بعدهم". كان السلوم - رحمه الله - قبل مداهمة المرض ووفاته، يتكلم عن أشياء كثيرة: إن نشيد "واقف على باب الحرم" قد تسلم نصها من شخص اسمه خميس سويدان، ولحنها في الستينيات الميلادية من القرن الماضي، حيث كانت الدولة حينها استقطبت شخصاً مصرياً يكتب "النوطة"، وهم في الأصل، كما يذكر، لديهم أول فرقة تكونت في نجد من بينهم سعد إبراهيم وعبدالله بن نصار، وتمت كتابة النوطة وسجلوها، وتعتبر من أوائل الأناشيد التي بثتها إذاعة الرياض بعد افتتاحها. واقف على باب الحرم.. يارب في قلبي الندم دمعي على خدي نزل.. هب لي من التوبة أمل يارب غفرانك.. يارب سبحانك اسأل وأطوف بالبيت.. عن زلتي وذنبي وادعو إذا صليت أغفر لي يا ربي يارب غفرانك.. يارب سبحانك. كذلك طارق عبدالحكيم -رحمه الله- الذي كان يهتم بالموسيقى العسكرية والألحان حينها، إلا أنه قدم رائعة "أهيم بروحي" ضمن استفاضة الأديب طاهر زمخشري " 1906- 1987" والوله لمكة حتى صاغها طارق بلحن "الدانة" الذي يعتبرونه أهل مكة ضمن تراهم لتتوافق مع شوق وحنين زمخشري إلى البيت العتيق. أهيم بروحي على الرابيه .. وعند المطاف وفي المــروتين وأهفو إلى ذكر غـــــاليه .. لدى البيت والخيف والأخشبين فاهدر دمعي بآمـــــــــاقيه .. ويجري لظـــاه على الوجنتين ويصرخ شوقي بأعمــاقيه .. فأرســل من مقلتي دمــــــعتين. هذه الاحتفالية بالحج وأيامه كانت إحدى الإشارات الإعلامية من الفنانين السعوديين، إذ يقدمونها ابتهاجاً بالحجاج وعونهم. يقول "فنان العرب" محمد عبده: "كان من الطبيعي أن نحتفي بالمناسبات الدينية ونجتهد في تقديم هذا اللون الغنائي - النشيد - وإظهار الصورة الحضارية التي تقدمها حكومتنا الرشيدة في استقبال الحجاج، لكن ما كنا نقدمه سابقاً يعد شكلاً فنياً جميلاً فالأجيال اختلفت وأصبح الجميع لا يقدم دوره في الفن كرسالة إنسانية دينية". المطربون العرب والسعوديون يستمدون هذه الروائع خلال الاحتفالية التي تشهدها أيام الحج آنذاك، وتستغلها الإذاعات والتلفزيونات في بداية نشأتها و"تمنتَّج" مشاهد من أيام الحج وتوضع على أصواتهم. لم يبق من مطربي الستينيات من القرن الماضي وما قبل إلا وقدم في هذه المناسبة عددًا من "الأغاني – الأناشيد". يعتبرونها مناسبة دينية تدفعهم للاستمرار، ويستطيعون معها نقل حضارتهم إلى أبعد ما يكون. يستلهمون من هذه المناسبة الدينية وتدخل في وجدانية الناس، حتى أصبحت اقتباساً من المناسبات الأخرى كاحتفالية مولد النبي محمد "عليه أفضل الصلاة والسلام" والتي كانت قائمة إلى يومنا هذا في معظم البلدان العربية، من هناك ظهرت أم كلثوم -رحمها الله- حيث يستمدون منها إطلاق الأناشيد الدينية والاحتفائية بالحج قبل أن تنشأ الإذاعات. هم يبدؤون في تقديم الأناشيد خلال مسيرتهم الفنية. "إلى عَرَفَاتِ اللهِ يا خَيْرَ زائِرٍ".. قبل بزوغ نجم تلك الأغاني والأناشيد في السعودية التي تحتفل بموسم الحج كانت السلطة والقدرة للفنانين العرب السابقين في التطور واستثمار الموسيقى الكلاسيكية والثقافة السينمائية والحفلات لتقديم أنفسهم في هذه المناسبة، أم كلثوم تبقى الاسم الأبرز في كُل الحالات حينما استغلت قصيدة أحمد شوقي "إلى عرفات" وكتَبَها أواخر "1909"، احتفالاً وتهنئة بقدوم الخديوي عباس بمناسبة حجه في ذاك العام. رياض السنباطي أبدع حينها بتلحين الجمل الموسيقية واختارت أم كُلثوم "25" بيتًا من القصيدة، وقدمتها للمرة الأولى سنة "1951"، وتبعتها في حفل آخر كان آخرها حفلة "يوليو1957". إلى عَرَفَاتِ اللهِ يا خَيْرَ زائِرٍ عَلَيكَ سَلامُ اللهِ في عَرَفاتِ ويومَ تُوَلِّي وُجْهَةَ البَيْتِ ناضِرًا وَسِيمَ مجالي البِشْرِ والقَسَمَاتِ على كُلِّ أُفْق ٍ بالحِجاز ِملائِكٌ تَزُفُّ تحايا اللهِ والبَرَكاتِ. بالرغمِ من أن أم كلثوم قد غنت روائع عدة في مشوارها الأسطوري، إلا أننا آثرنا أن نمر إلى نشيد "إلى عرفاتِ اللهِ" ونشيد "القلب يعشق/ دعاني لبّيتُه" التي قدمتها في فبراير "1971" في حفلها الشهري من ألحان رياض السنباطي الذي نجح للمرّةِ الثانية مع أم كُلثوم في تلحينِ أعمال سابقة لزملائه ويتفوق عليهم، كانت المرة الأولى قصيدة "أراكَ عصيَّ الدمّعِ" التي غنتها أم كُلثوم للمرة الأولى في "1926" بألحان عبده الحامولي، ثم قدمتها للمرة الثانية بلحن زكريّا أحمد في "1944 - هذا التسجيل مفقود من مكتبة أُم كلثوم- قبل أن يأتي السنباطي ليقدم اللحن الثالث لقصيدة، "دعاني لبّيتُه" والتي شاعت بعنوانٍ معروف "القلب يعشق كلّ جميل" للشاعر محمود بيرم التونسي، ولحنها زكريا أحمد منتصفَ أربعينياتِ القرنِ العشرين، واختلف مع أم كُلثوم حول اللحن فسجلها خصيصًا لإذاعة "لندن القسم العربي" عام 1946" قبل أن تعيدها – أم كُلثوم- مع رياض السنباطي "1964". القلب يعشق كلّ جميلْ وياما شُفتي جَمالْ يا عين واللي صَدَق في الحبِّ قليلْ وانْ دامْ يدومْ يومْ والاّ يُومينْ واللي هَويتُه اليومْ.. دايمْ وصالُه دُومْ لا يعاتب اللي يتوبْ، ولا في طبعُه اللومْ واحدْ مفيشْ غيرُهْ.. مَلَا الوجودْ نورُه دعاني لبّيتُه.. لحدّ بابْ بيتُهْ وامّا تجلّى لي.. بالدّمْعِ ناجَيتُهْ مَكَّة وِفِيها جبالِ النّورْ طالَّة على البيتِ المَعْمورْ دَخَلْنا بابِ السَّلامْ. هذه الحالة الفنية لم تنطبق على أم كلثوم وحدها! بل عمت جميع الفنانين العرب حينها، يقدمون في هذه المناسبة - الحج - أجمل ما عندهم ويتباهون فيما يقدمونه. ليلى مراد الصورة الذهنية في الأغاني السينمائية، لم تكُف عن تقديم النشيد الديني الخاص بالحج، استغلت فيلم "ليلى بنت الأكابر" التي شاركت فيه مع أنور وجدي وإسماعيل ياسين مطلع الستينيات الميلادية من القرن الماضي لتقدم مشهدًا مهولاً شاركت في تقديم صوتها بنشيد "يارايحين النبي" التي كتبها أبو السعود الأبياري ولحنها رياض السنباطي، الذي برع في تقديم هذا اللون. الفنانون الآخرون يستغلون هذه المناسبة في تقديم أعمالهم في أيام الحج، حتى الأجيال التي أتت بعدهم يستمرون في تقديم هذا اللون من الغناء، كان محمد الكحلاوي منهم عندما قدم نشيد "لأجل النبي" وجابر العزب في نشيد "خذوني معاكم" وأيضاً السورية سعاد محمد "طلع البدر علينا"، وياسمين الخيام في نشيد "أم النبي"، وحتى المطربة الشعبية فاطمة عيد لم تترك هذه الخاصية من الغناء حينما قدمت "رايحة فين يا حاجة". الفنانون العرب، لم يحتفلوا بالحج وحدهم. السعوديون كذلك بعد فتح الإذاعات كانوا الأقرب في تفصيل المناسك وتخليد أسمائهم ضمن هذه الذاكرة الموسمية. محمد عبده المعاصر لأناشيد الحج وذاكرة المناسك صورة «أرشيفية» للراحل عبدالله السلوم.. تذكر حينها ثلة من الذين ساهموا في تخليد موسقة الحج طلال مداح - رحمه الله -.. البدايات دائماً تأتي من عنده ابتسام لطفي تتذكر دائماً تلك الفترة الذهبية التي مرت على الأناشيد
مشاركة :