لاحظ أولئك الذين يتابعون الأخبار حول الوضع العالمي للدولار الأمريكي العديد من الادعاءات بأن اتفاقية البترودولار الأمريكية السعودية "انتهت صلاحيتها" وأن السعوديين سيبيعون الآن النفط بالعديد من العملات غير الدولار، حتى أن بعض "إصدارات القصة زعمت أن اليوان الصيني سيحل محل الدولار". يبدو أن التقارير قد انتشرت إما في الهند أو في المنشورات التي تلبي احتياجات مستثمري العملات المشفرة!!! وكانت الحماسة حول هذه القصة كبيرة بما يكفي لدرجة أن الخبير الاقتصادي بول دونوفان في بنك يو بي إس، شعر بالحاجة إلى توضيح أنه لم تكن هناك في الواقع أي تطورات كبيرة جديدة في العلاقات النقدية بين السعودية والولايات المتحدة. بداية، إن تحول السعوديين نحو تبني عملات أخرى غير الدولار ليس جديدا، علاوة على ذلك، لا توجد معاهدة أو عقد رسمي معروف بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ــ على الأقل عقد له تاريخ انتهاء الصلاحية. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يجادل بشكل معقول بأن هذه التقارير عن انخفاض قيمة البترودولار خاطئة فقط في تفاصيلها، ومع ذلك، تعكس التقارير اتجاهًا حقيقيًا في العالم، وهذا على الأرجح هو السبب الذي يجعل القصص حول نهاية البترودولار تبدو معقولة بالنسبة للكثيرين. كانت المملكة العربية السعودية تبتعد بشكل متزايد عن الفلك الأمريكي في السنوات الأخيرة، وينعكس ذلك في زيادة الرغبة في تسوية صفقات النفط بعملات غير الدولار، وهناك أيضًا مؤشرات أخرى على أن السعوديين أصبحوا أكثر استعدادًا لاحتضان خصوم واشنطن - مثل الصين وإيران وروسيا - على الرغم من اعتراضات واشنطن. في حين أن التغييرات على المدى القصير قد تبدو طفيفة، إلا أن الاتجاه الحالي في العلاقات الأمريكية السعودية يشير إلى تراجع عام وكبير في النفوذ العالمي للولايات المتحدة. ما هو البترودولار المُهددة ؟ هي صفقة غير رسمية - يعود تاريخها إلى عام 1974 - بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية يوافق بموجبها السعوديون على بيع النفط مقابل الدولار فقط، وتنص الصفقة أيضًا على أن السعوديين يستثمرون دولاراتهم الفائضة في سندات الخزانة الأمريكية. لماذا توجد هذه الصفقة؟ من المنظور الأمريكي، تساعد الصفقة في دعم الدولار الأمريكي، وليس من قبيل الصدفة أن تعود تواريخ الصفقة إلى أوائل السبعينيات في أعقاب صدمة نيكسون عام 1971 وإغلاق نافذة الذهب، علاوة على ذلك، تحافظ الصفقة على سوق جاهزة لمبالغ متزايدة من سندات الخزانة الأمريكية مع نمو الإنفاق الفيدرالي بالعجز بشكل مستمر. عندما تصور الأمريكيون ترتيبات البترودولار، كانت المملكة العربية السعودية أكبر دولة منتجة للنفط وكانت التجارة بالدولار فقط تضمن استمرار مكانة الدولار. بالنسبة للسعوديين، تجلب هذه العلاقة الوثيقة بعض الضمانات الأمنية الضمنية من واشنطن، وهذا يعني أن النظام السعودي يعلم أنه ما دام يشكل عنصرًا مهمًا في سياسة الدولار، فإن الولايات المتحدة سوف تتدخل عسكريًا، إذا لزم الأمر، لضمان استمرار وجود الدولة السعودية. تهديدات جديدة لنظام البترودولار و بمرور الوقت، تتطور الحقائق الجيوسياسية وأصبح استعداد السعودية للانخراط في تجارة النفط غير الدولار أخيرًا سياسة معلنة للنظام السعودي في يناير 2023، وكما ذكر موقع Mises العام الماضي، تصريح وزير المالية السعودي وأضاف أنه "لا توجد مشاكل في مناقشة كيفية تسوية ترتيباتنا التجارية، سواء كان ذلك بالدولار الأمريكي، أو باليورو، أو بالريال السعودي". في ذلك الوقت، كان هذا تطورًا جديدًا بالفعل، وكان بمثابة نهاية لفترة عدة سنوات انتشرت خلالها شائعات مستمرة بأن السعوديين سيبتعدون عن الدولار، في عام 2019. استمرت التغييرات الإضافية في السياسة السعودية على مدار العام، وفي منتصف عام 2023، بدأ السعوديون في استيراد مستويات قياسية من زيت الوقود من روسيا، مما أدى إلى ترسيخ العلاقات التجارية بين البلدين، وبالنظر إلى الكيفية التي حاولت بها واشنطن إخراج روسيا من الاقتصاد الدولاري، فإن التجارة المتنامية بين الروس والسعوديين تزيد من الحاجة إلى التجارة بعملات أخرى غير الدولار. التحرر من المحور الأمريكي إذا نظرنا إلى هذه التطورات في حد ذاتها، فقد تبدو وكأنها ليست مشكلة كبيرة. ففي نهاية المطاف، لا تزال عملة الريال السعودي مرتبطة بالدولار، في الوقت الحالي، ومع ذلك، إذا نظرنا إلى هذه التطورات الأخيرة في السياق الأكبر، فإنها توضح كيف يبتعد السعوديون عن النظام النقدي والجيوسياسي الراسخ الذي فرضته الولايات المتحدة على العالم بأسره تقريبًا منذ نهاية الحرب الباردة؟. وفي مارس 2023، شارك السعوديون في اتفاق توسطت فيه الصين لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، كانت المملكة العربية السعودية على خلاف منذ فترة طويلة مع النظام الإيراني حيث تنافست الدولتان على الهيمنة في منطقة الخليج العربي، وبطبيعة الحال، شجعت واشنطن السعوديين على مساعدة الولايات المتحدة في عزل إيران. ورغم أن الولايات المتحدة أشادت علنًا بالاتفاق الذي توسطت فيه الصين عندما أصبح علنيًا، فمن الواضح أن الاتفاق يمثل ضربة لنفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، علاوة على ذلك، إذا كان هناك أي شك في أن واشنطن لا توافق على الصفقة سرًا، فلا نحتاج إلى النظر إلى أبعد من حقيقة معارضة النظام الإسرائيلي للصفقة. وبعد ستة أشهر، خلص تقرير صدر في سبتمبر/أيلول 2023 عن مركز أبحاث السياسة الخارجية "ستيمسون" إلى أن تحركات السعودية بعيدًا عن الدولار لم تكن مجرد خدع من الرياض. بل كانت بالأحرى جزءًا من جهد دبلوماسي أكبر من جانب السعوديين للحصول على مزيد من المرونة في التعامل مع القوى العالمية الكبرى مثل الصين والروس. إن العلاقة الباردة بين الرياض وواشنطن لا تثبت أنه سيكون هناك تغيير فوري وكبير في اقتصاد الدولار أو في استمرار هيمنة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه يمثل دليلًا مستمرًا على التراجع النسبي المستمر في سيطرة الولايات المتحدة على أسواق العملات العالمية والنظام الجيوسياسي.
مشاركة :