تتطلب صياغة سياسة وطنية سليمة التوصل إلى المفاهيم الكبرى المهيمنة على القضية محل الاهتمام. وتكتسب مسألة التوصل إلى «الأفكار الكبرى» الصحيحة أهمية خاصة عندما يبدو أن تطورات هائلة ألقت بظلال الشك على صحة مفاهيم اعتمدت عليها سياسات واستراتيجيات سابقة - ويبدو أن هذا التوصيف ينطبق على الوضع القائم في أعقاب «الربيع العربي». ولتوضيح هذه النقطة، كثيرًا ما أشرت إلى أن التنامي الذي حمل الأهمية الكبرى للعراق لم يكن تنامي أعداد القوات، وإنما تنامي الأفكار التي أرشدت الاستراتيجية المتبعة هناك ونجحت نهاية الأمر في تحقيق تراجع كبير في أعمال العنف بالعراق. ومن بين كبريات الأفكار التي وقفت وراء زيادة أعداد القوات الأميركية بالعراق الاعتراف بأن: * المجال الحاسم هو المجال الإنساني - وأن تأمين الأفراد ينبغي أن يمثل أولويتنا الكبرى. ومن دون إحراز تقدم على هذا الصعيد، لن يكون من الممكن إنجاز أي شيء آخر. * لن يكون باستطاعتنا تأمين الأفراد من دون العيش معهم، وتمركز قواتنا داخل أحيائهم، بدلاً من التمترس داخل القواعد العسكرية الضخمة. * لم يكن باستطاعتنا شق طريقنا للخروج من حركة التمرد الضخمة التي مني بها العراق عبر قتل أو أسر من نقابله في مسيرتنا، ذلك أنه رغم استمرار ضرورة أعمال الأسر والقتل، فإننا كنا بحاجة إلى تحقيق مصالحة مع أكبر عدد ممكن من الأفراد العاديين المشاركين في التمرد. * لم يكن بمقدورنا تطهير مناطق من المتمردين، ثم تركها بعد تسليم السيطرة عليها إلى قوات عراقية، وإنما كان يتعين علينا تطهير المناطق والبقاء بها ونقل السيطرة عليها إلى العراقيين. الآن، وبعد مرور تسع سنوات عصيبة، يبدو أن خمس أفكار كبرى تتشكل كدروس من التطورات التي شهدها العقد الماضي ينبغي أن نضعها في الاعتبار. أولاً: من الواضح على نحو متزايد أن المساحات غير الخاضعة للحكم والسيطرة داخل المنطقة الممتدة من غرب أفريقيا عبر الشرق الأوسط إلى داخل وسط آسيا سيجري استغلالها من جانب متطرفين إسلاميين يرغبون في إقامة ملاذات آمنة لهم يفرضون داخلها رؤيتهم المتطرفة للإسلام ويشنون منها هجمات إرهابية. ثانيًا: من الواضح كذلك أن الهجمات والنشاطات الأخرى التي سيشنها المتطرفون لن تقتصر على المناطق التي يوجدون بها، وإنما من المحتمل أن تثير نشاطات الجماعات المتطرفة حالة من زعزعة الاستقرار والتطرف والعنف وموجات من اللاجئين تتجاوز بكثير المناطق المجاورة لهم مباشرة. ثالثًا: من الواضح على نحو متزايد أيضًا، أنه في مواجهة هذه التحديات، تواجه الولايات المتحدة موقفًا يحتم عليها تولي دور القيادة، لأنها إذا نأت عن هذا الدور، لن تقدم عليه أية دولة أخرى. علاوة على ذلك، فإنه ليس باستطاعة أية مجموعة أخرى من الدول التمتع بالقدرات ذاتها، التي تتميز بها الولايات المتحدة. بيد أنه ينبغي على واشنطن أن تقدم فقط على فعل ما هو بالغ الضرورة، وأن نقوم بذلك بالتعاون مع أكبر عدد ممكن من الشركاء وهنا، يتسم الشركاء من داخل العالم الإسلامي بأهمية خاصة. في الواقع، أمام هؤلاء الشركاء حوافز كبرى لأن يشاركوا، خاصة بالنظر إلى أن الصراعات الدائرة لا تعكس بوجه عام صراعًا بين الحضارات، وإنما يمكن وصف ما نعايشه الآن باعتباره صراعًا داخل حضارة واحدة، وهي العالم الإسلامي. رابعًا: من الواضح أن الطريق الذي يتعين على واشنطن وشركائها في التحالف ينبغي أن يكون شاملاً، وليس مجرد توجه ضيق الأفق تجاه مكافحة الإرهاب. وبمرور الوقت تتضح الحاجة للمزيد من الضربات الدقيقة والعمليات الخاصة. إلا أن هذا لا يعني أنه يتعين على واشنطن المشاركة بقوات برية تقليدية. على سبيل المثال، عند النظر للعراق يتضح أنه لا ينبغي على العراقيين أنفسهم الاضطلاع بمثل تلك المهام فحسب، وإنما كذلك عليهم تحقيق نتائج مستدامة، بدعم كبير من تحالف تقوده الولايات المتحدة. خامسًا وأخيرًا: من الواضح أن الجهود التي تقودها واشنطن ينبغي أن تستمر لفترات قد تطول - وأن قرارات تقليص جهودنا ينبغي أن تعتمد على الحقائق القائمة على الأرض، وليس جداول زمنية ثابتة. المؤكد أنه ليس هناك سبيل يسير لتحقيق ما سبق أن وصفته هنا، ذلك أن النجاح في كل هذا يستلزم التزامًا مستمرًا، ليس من قبل قواتنا المسلحة فحسب، وإنما كذلك فيما يتعلق بقدرات وزاراتنا ووكالاتنا الأخرى. إن «الحرب الطويلة» ستكون بمثابة ماراثون هائل، وحان الوقت كي نعترف بذلك. إلا أن الحقيقة تظل أننا وشركاءنا قادرون على الاستجابة لهذا التحدي على نحو رصين وحكيم، بناءً على الأفكار الكبرى التي وصفتها. * مدير وكالة الاستخبارات المركزية بين عامي 2011 و2012 * خدمة «واشنطن بوست»
مشاركة :