الكويت تمر بمنعطف تاريخي مهم، بعد الأمر السامي بتعطيل بعض مواد الدستور لعدة سنوات، وهي أمام تحديات كبيرة أهمها استدامة مالية الدولة وتنويع الاقتصاد وإيجاد فرص عمل حقيقية للشباب الكويتي خاصة في السنوات المقبلة، مع التزايد المستمر في أعداد خريجي الثانوية العامة والجامعات والمعاهد. لا نشك في رغبة القيادة السياسية، ولا في رغبة سمو رئيس مجلس الوزراء في مواجهة هذه التحديات، وإحداث إصلاح حقيقي بالبلد بعد سنوات من تضييع الفرص والدوران في حلقة مفرغة من الأزمات والصراعات، ولكن أخشى أن الحكومة الحالية بأغلب عناصرها الوزارية غير قادرة على إحداث التغيير المرجو، خاصة بعد أن رأينا طريقة تعامل بعض الوزراء والمسؤولين مع الحادث الأليم لحريق مبنى المنقف وأزمة انقطاع الكهرباء، حيث رأينا استمرار التعامل مع الأزمات بطريقة ردات الفعل غير المدروسة، والتي يراد منها بالدرجة الأولى رفع العتب، وإظهار الحزم لإسكات الرأي العام، دون دراسة معمقة لعواقب تلك القرارات. من ناحية، ما نراه أمر طبيعي، لأنه لا يمكن توقع تغيير مفاجئ وسريع في طريقة تعاطي الوزراء والمسؤولين مع القضايا والأزمات، خاصة مع تضخم حجم الوزارات وانغماس الوزراء في دهاليز تلك الأجهزة البيروقراطية المعقدة. ولكن أتمنى أن تكون هذه المرحلة هي مرحلة انتقالية للوصول إلى وضع أفضل من الوضع الحالي. ولكي نصل إلى هذه النتيجة المرجوة يجب أن يكون هناك تغيير جذري في أصل المؤسسات وطريقة عملها واختيار مسؤوليها، لأن الوضع الحالي للمؤسسات لا يصلح لأي تغيير حقيقي في البلد، لأنها نتاج عبث وفساد في التعيينات والترقيات لأكثر من ثلاثة عقود. ولذلك أتصور أنه من المهم أن يكون لدى سمو رئيس مجلس الوزراء حكومة ظل مشكلة من كفاءات وطنية ومستشارين أجانب مهمتها التالي: أولا: دراسة إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، بحيث يتم تخفيض حجمها وتفكيك بعضها ودمج وإلغاء أخرى، لأن الأجهزة الضخمة لا يمكن أن تعمل بكفاءة، فكلما زاد حجم المؤسسات زادت هشاشتها، كما يقول نسيم نيكولاس طالب في كتابه «Antifragile». وهناك مشاريع إصلاحية لخدمات التعليم والصحة -قوامها تفكيك هاتين الوزارتين- موجودة لدى المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية وجاهزة للتطبيق وتنتظر من يتبناها. ثانيا: مراجعة شهادات جميع من يشغل مناصب رئيس قسم وما فوق في مختلف مؤسسات الدولة، وهنا لا نتحدث فقط عن أصحاب الشهادات المزورة، بل المشكلة الأكبر في أصحاب الشهادات الواهنة، أي من لديهم شهادات معترف بها ومن جامعات موجودة لكنها لا تساوي الحبر الذي طبعت به، وخاصة من بعض الدول العربية ومن شرق أوروبا، فهؤلاء يجب إعفاؤهم من المناصب فورا ودون تردد. ثالثا: إيجاد آلية لاستقطاب الكفاءات وتعيينها في المناصب القيادية بالدولة، بدلا من أغلب القيادات الحالية، وأن يكون أصل التعيين من خارج المؤسسات، لأن أغلب الصف الثاني والثالث في المؤسسات حاليا هم نتاج عبث وفساد في الترقيات طوال العقود الماضية كما ذكرنا، وليسوا مؤهلين لأي عملية إصلاحية، بينما الكثير من الكفاءات مهمشة، سواء من داخل تلك المؤسسات أو خارجها. ولذلك يجب تجميد الكثير من قوانين ديوان الخدمة المدنية التي تشكل عائقا أمام أي تغيير جذري في أجهزة الدولة. ولكن الاكتفاء بتعيين الكفاءات في مختلف مؤسسات الدولة لن يكون كافيا ما دامت آلية اتخاذ القرارات مقيدة بكثير من الإجراءات وطغيان الرقابة. فلكي يبدع المسؤول يجب أن تكون له سلطة تقديرية معقولة في اتخاذ القرارات، مقابل رقابة مسؤولة لا تستهوي معاقبة المسؤولين. ولذلك يجب اتخاذ القرار الشجاع بإلغاء الرقابة المسبقة، ودمج جميع الجهات الرقابية في كيان واحد هو ديوان المحاسبة، مع حصر مهمتها في الرقابة اللاحقة، وتغيير ثقافة هذا الديوان، ولعلنا نحتاج إلى مقال كامل لتبيان عيوب الثقافة الحالية المسيطرة عليه. رابعا: البدء ببرنامج خصخصة ذكية لبعض الخدمات والمؤسسات، مثل الخطوط الأرضية والكهرباء والتعاونيات، من باب إشراك المواطنين مباشرة في استملاك هذه المرافق، وأن يكون نموذج الخصخصة مشابها لطريقة طرح رخصة الاتصالات الثالثة، بحيث يكتتب المواطنون ومؤسسة التأمينات والهيئة العامة للاستثمار بحصص معينة بالقيمة الاسمية فيما تطرح حصة القطاع الخاص بالمزاد العلني، فالكويت بحاجة إلى اللحاق بأغلب دول الخليج، التي توسعت في طرح الاكتتابات بالسنوات الأخيرة، بينما ظلت هي في جمود بسبب النظام السياسي القائم على الصراعات. خامسا: ربط المكافآت السنوية للمسؤولين في مختلف أجهزة الدولة بمدى قدرة البلد على جذب الاستثمار الأجنبي، خصوصا مسؤولي تلك الأجهزة التي لها علاقة بمدى جاذبية بيئة الأعمال، مثل التجارة والداخلية والقوى العاملة والهيئات المعنية بالاستثمار، فمن الأسباب الرئيسية لسوء بيئة الأعمال وتفنن مختلف مؤسسات الدولة في خلق العراقيل وتعقيد الإجراءات هو ضمان المسؤولين مميزاتهم المالية واعتمادهم على عائدات النفط لدفعها. فلن تتغير ثقافة الشك والتعقيد هذه إلا بخلق محفزات على تغييرها، ويعتبر ربط المكافآت بمقدار العوائد غير النفطية للبلد أحد تلك المحفزات. أدرك أن الحمل ثقيل جدا، فالفساد المتراكم طوال السنوات الماضية بحاجة إلى جهود كبيرة للتخلص منه، ولكن هذا هو الوقت المناسب لبدء عملية التغيير الجذري، والسنوات الأربع القادمة فرصة ذهبية لتطبيقها، فلا نريد العودة إلى الوضع السابق الذي كانت فيه مؤسسات الدولة وماليتها محل استنزاف من قبل مختلف الأطراف المشاركة في النظام السياسي، بل نريد مؤسسات فاعلة واقتصادا متنوعا وحيويا قادرا على خلق فرص عمل مستدامة للشباب الكويتي، وللحديث بقية.
مشاركة :