جاء عمرو بن العاص غاضبًا فى الرؤيا لشيخ الأزهر الأسبق د/ عبد الحليم محمود وكان زاهدًا تقيًا نقيًا، فلمَّا سأله عن سر غضبه قال: كيف يهاجمنى الغزالى، ألا يعرف أننى السبب فى إسلامه وإسلام آبائه وأجداده. قص د/ عبد الحليم الرؤيا على الشيخ الغزالى الذى أدرك خطأه فى حق من أفضل عليه وعلى كل مسلمى مصر وشمال إفريقيا، فظل طوال حياته يدافع عن عمرو بن العاص ويروى مآثره. تذكرت هذه القصة وأنا أقرأ مقالا لكاتب أراد الطعن فى عمرو بن العاص بطريقة «لا تقربوا الصلاة»، وذكر أن بعض المؤرخين اتهموا عمرو بن العاص بحرق مكتبة الإسكندرية وأن آخرين برأوه من ذلك، هكذا بطريقة «اخطف واجرى»، مغفلاً الطريقة العلمية والتاريخية الدقيقة فى عرض الأحداث، معتمدا على ضعف ذاكرة بعض القراء، وقلة عودتهم إلى المصادر الأصلية للتاريخ وخاصة فتح مصر. لقد تغافل الكاتب عامدا عن ذكر أهم كتابين أرَّخا لفتح مصر وهما «فتح مصر» لابن عبد الحكم، «وفتح العرب لمصر» لألفريد بتلر، وكلاهما لم يذكرا ما ذكره الرجل فى مقاله. وألفريد بتلر لا يحب العرب أو عمرو بن العاص ولكنه باحث تاريخى مدقق يأبى أن ينسب لخصومه شيئا لم يفعلوه كما يحلو ذلك لبعض قومنا. ولم يذكر الشاعر أن دائرة المعارف البريطانية فى طبعتها رقم 11 أضافت خبر حرق عمرو بن العاص لمكتبة الإسكندرية ويبدو أن الذى أضافها كان من عينة شاعرنا غير المدقق، ثم تبين لها بعد ذلك كذب هذه الرواية بالأدلة التاريخية الدقيقة فقامت بحذف هذا الخبر فى طبعتها الرابعة عشر. ولم يكلف الشاعر نفسه أن يقول إن الراوى الوحيد لهذا الخبر المكذوب هو ابن العنبرى واسمه غريفوريوس أبو الفرج بن هارون فى كتابه «مختصر الدول»، وهو غير مصرى ولا يعتد بكتبه عن التاريخ المصرى خاصة، بدليل أن دائرة المعارف البريطانية حذفت الخبر بعد أن تحققت من كذبه. ولا أعتقد أن دائرة المعارف البريطانية بينها وبين عمرو بن العاص نسب ولا صهر ولا حب ولا كره، ويا ليتنا نتعلم الإنصاف من بعض علمائهم. أما ما فات الكاتب الهمام فهو أن عمرو بن العاص حينما قدم لفتح مصر لم تكن مكتبة الإسكندرية موجودة أصلاً، فقد حرقها يوليوس قيصر قبل ذلك بسنوات بعيدة، ولكن لا حرج اليوم على كل من يكرهون الرجل وأقرانه من الصحابة أن يعيدوها للحياة ليحرقها فى خيالهم المريض. أما قصة حرق مكتبة الإسكندرية فهى مدونة أيضا فى التاريخ وذلك سنة 48 قبل الميلاد، ففى هذا العام حضر يوليوس قيصر الإمبراطور الرومانى إلى الإسكندرية لفك النزاع على حكم مصر بين كليوباترا وشقيقها بطليموس الصغير، وكان يوليوس يميل لنصرة كليوباترا، وفى أثناء وجود الإمبراطور فى القصر بالإسكندرية حاصره بطليموس الصغير بجنوده، فطلب الإمبراطور النجدة من خارج مصر، وكان على شاطئ البحر المتوسط وحول المكتبة 101 سفينة فأمر يوليوس قيصر بحرق السفن كلها حتى لا يستفيد منها خصومه فى المعركة المقبلة مما أدى إلى حرق المكتبة بالكامل. لقد تجاهل الرجل كل هذه الحقائق وانطلق من شتم ابن العاص ليشتم الأمة كلها ويهيل التراب عليها ويصفها بـ«أمة الحرق»، وأنها «عدوة للكتب» فى إعادة بغيضة لكتابات عفا عليها الزمن، ونسى أن عمر بن الخطاب وجنوده فتحوا بيت المقدس وكانت فيها مكتبة كبيرة ولم يمسسها أحد، وفتحوا دمشق وكانت بها مكتبة كبيرة لم يقترب منها أحد. ونسى فى غمرة كراهيته لهؤلاء العظام أن مكتبة الإسكندرية التى حرقها يوليوس قيصر دون قصد كان قبل بعثة المسيح عليه السلام، وأن فتح مصر تم بعدها بمئات السنين. وعلى الكاتب الهمام أن يدرك أن «الكذب مالوش رجلين»، وأرجو أن تقرأ أى كتاب عن فتح مصر لتدرك أن عمرو بن العاص الذى تسخر منه أنت وغيرك كان أعظم سياسى وعسكرى فى تاريخه، وأنه هو الذى أنقد نصارى مصر الأرثوذكس ومذهبهم من الهلاك والضياع لو استمر اضطهاد الرومان عشر سنوات أخرى لهم ولمذهبهم. لقد جاء عمرو إلى مصر فوجد الروم قد حرقوا متياس شقيق الأنبا بنيامين الذى هرب بعدها للصحراء لمدة 13 عاما ولم يستنقذه ويكرم وفادته سوى عمرو بن العاص. وكان الرومان الكاثوليك يعذبون أقباط مصر الأرثوذكس بإلقائهم فى الزيت المغلى أو تقطيع أجسادهم لحملهم على اعتناق المذهب الكاثوليكى بعد أن أصدر الإمبراطور «هرقل» قرارا بأن تكون الدولة الرومانية على دين ومذهب واحد وهو المسيحية الكاثوليكية. وعمرو بن العاص بعبقريته السياسية والإدارية لم يظلم مصريا ولم يحمل مصريا على ترك دينه وهو الذى أعطى قبلة الحياة لمسيحيى مصر ومذهبهم الأرثوذكسى. وتأمل حينما أخطأ ابنه فى حق ابن أحد عوام الأقباط ماذا فعل عمر بن الخطاب بعمرو وابنه، إن ألفريد بتلر أقر بأن عمرو بن العاص كان سياسيا وإداريا فذا وأنه لم يصنف الناس بحسب دينهم أو عقيدتهم، ولكن بحسب عطائهم للوطن.
مشاركة :