ملحوظات أوليّة على ترجمتَي د.كمال أبو ديب ود.محمد عناني (1-2)

  • 4/23/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

وصفت صحيفة الجارديان البريطانية (12/3/2016) كتاب "الاستشراق للبروفيسور إدوارد سعيد - رحمه الله - بأنه واحد من الكتب المائة الخالدة على مَر العصور. وكان البروفيسور سعيد (Orientalism, 2003: 339) من الاستقبال الباهت الذي قوبل به كتابه "الاستشراق" في العالم العربي وأشار إلى بعض الأسباب وراء ذلك منوِّها باجتهادات الدكتور كمال أبو ديب في ترجمته (1981م) التي وصفها ب"الرائعة"! لكن يبدو أن سبب هذا الاستقبال الباهت يعود أول ما يعود إلى أن ترجمة الكتاب إلى العربية لم تكن ناجحة مما جعل كثيرا من القراء يعزفون عن قراءته. وسأحاول هنا إبداء بعض الملحوظات عن الترجمتين العربيتين الوحيدتين للكتاب. ترجمة د. كمال أبو ديب: ظل الانطباع الشائع في العالم العربي عن ترجمة الدكتور كمال أبو ديب لكتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" يتمثل بأنها عصية على الفهم. وظهر عدد من الدراسات والمقالات النقدية في الصحف والمجلات العربية تشير كلها إلى امتعاض القراء العرب من صعوبة هذه الترجمة. وكان المتوقع أن يعيد الدكتور أبو ديب النظر في ترجمته في ضوء هذه الشكاوى المستمرة منها منذ ظهورها سنة 1981م. لكن ترجمتَه ظلت على حالها من غير أي تغيير إلى الآن على الرغم من إعادة نشرها ثمان مرات كان آخرها سنة 2010م. ويُصدم من يقرأ ترجمة د. أبو ديب منذ الصفحة الأولى في مقدمة المترجم بحالات كثيرة جدا من الأخطاء الإملائية واللغوية والنحوية والاستخدامات الغريبة والركاكة في بنية الجملة، إلى غير ذلك. وهذا هو ما أدى في واقع الأمر إلى عزوف القراء العرب عن هذه الترجمة التي امتدحها إدوارد سعيد. لكن إدوارد سعيد نفسه عاد في سنة 2004م ليصف هذه الترجمة بأنها "غير دقيقة" inexact (كما أوردت ذلك الأستاذة نادية علي خليل حمد في رسالتها (ص2) التي سأشير إليها في ما يلي. وبدلا من إيراد الأمثلة على المشكلات الكثيرة المتنوعة في ترجمة أبو ديب يكفي الاطلاع على رسالة الماجستير التي أنجزتها الأستاذة نادية علي خليل حمد في جامعة النجاح الوطنية (الفلسطينية) سنة 2006م بعنوان: Abu-Db’s Translation of Orientalism: A Critical Study. Prepared by Nadia Khalil Hamad, 2006. "ترجمة أبو ديب لكتاب ‘الاستشراق‘: دراسة نقدية. من إنجاز نادية خليل حمد، 2006". جاءت الرسالة في مقدمة وخمسة فصول وخاتمة ومسرد طويل متنوع بالأخطاء الإملائية واللغوية والنحوية والصياغية والدلالية في هذه الترجمة جاعلة كل نوع من هذه الأخطاء في فصل مستقل. وتكفي الملحوظات التي أوردتْها الأستاذة نادية عن أي جهد آخر للتدليل على أن موقف القراء العرب السلبي من هذه الترجمة كان مسوَّغا، وهو الذي وقف أمام شيوعها في المجال الثقافي العربي العام. ومما يلحظ على هذه الترجمة أن الدكتور أبو ديب ضمَّن مقدمته شكوى مرة من الصعوبات الكثيرة جدا في اللغة العربية المعاصرة مما يستوجب في رأيه "تفجيرها" من أجل تمكينها من التعبير عن العلوم والمفاهيم الجديدة التي لم تتعود التعبير عنها! وكان يمكن أن يحمل كلامه على محمل الجد لو أنه لم يرتكب ما ارتكبه من أخطاء متنوعة كثيرة جدا في بعض الجوانب اللغوية العربية الأساسية كالإملاء واللغة والنحو والدلالة التي لا يمكن أن يرتكبها عربي متوسط الثقافة. ومحصلة دراسة الأستاذة نادية أن ترجمة د. كمال أبو ديب لا يمكن الاعتماد عليها، وهو ما يوجب ترجمة كتاب "الاستشراق" ثانية بلغة عربية مؤدية. ترجمة الدكتور محمد عناني (2006م): أرَّخ د. محمد عناني مقدمة ترجمته ب 2006م. ويلفت هذا التاريخُ النظرَ لاتصاله بما كتبه في مقدمته عن دوافعه إلى ترجمة الكتاب. يقول د. عناني (ص12) في صياغته لتساؤلٍ محتملٍ عن السبب الذي يجعله يترجم "الاستشراق" قائلا: "لماذ أُقَدِّمُ الآن ترجمة جديدة وبين أيدينا الترجمة المشهورة التي قدمها كمال أو ديب منذ ربع قرن؟". ويسوق في جوابه عن هذا التساؤل ثلاث مسوغات. فالمسوغ الأول أنه يُترجم "الطبعة الثانية المزيدة" لكتاب "الاستشراق" الصادرة في سنة 1995م لأنها تتضمن فصلا جديدا ألحقه إدوارد سعيد في هذه "الطبعة" وهو الذي ترجمه د. عناني بعنوان "تذييل". وربما يكون هذا التسويغ مقبولا لو أن د. عناني ما كان يكتب هذه المقدمة في سنة 2006م. ذلك أن دار بنجوين البريطانية أصدرت في سنة 2003م نشرة جديدة ل"الاستشراق" صدَّرها سعيد ب "مدخل" Preface يتحدث فيه عن قضايا مهمة تتصل بالكتاب. فتسويغ د. عناني الأول لترجمته ليس صحيحا، إذن: ذلك أن نشرة "الاستشراق" التي تَرجمها ليست الكتاب "الجديد"، بل تُعدُّ في سنة 2003م كتابا "قديما". وكان يمكن أن يكون تسويغا صحيحا لو نَشر ترجمته قبل 2003م. ويمثِّل التسويغَ الثاني لترجمته ل"الاستشراق" رأيُه بأن كل ترجمة لكتاب ما إنما هي "تفسير" جديد "في كل عصر على ضوء مفاهيمه الجديدة المعاصرة". لكن هذا التسويغ يَغفُل عن أن ترجمة د. أبو ديب وترجمة د عناني كلتيهما تنتميان إلى عصر واحد لا يفصل بينهما إلا خمس وعشرون سنة! ومع هذا لم يبيِّن د. عناني أيَّ شواهد على اختلاف ترجمته عن ترجمة د. أبو ديب نتيجة لاختلاف التفسير "على ضوء [المفاهيم] الجديدة المعاصرة". بل الواقع أن د. عناني وقع في بعض أخطاء د. أبو ديب التي لا تحتاج إلى "تفسير" جديد بقدر ما تحتاج إلى الحرص على صحة المعلومة. ومن شواهد هذا الخطأ اتفاق الترجمتين على الخطأ في ترجمة عنوانيْ كتابين للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو وردا في الكتاب الأصل بالعنوانين الإنجليزيين: The Archaeology of Knowledge وDiscipline and Punish . فقد وردا في ترجمة د. أبو ديب (ص39) على أنهما "علم آثار المعرفة وأدِّبْ وعاقِب". وورد العنوانان في ترجمة د. عناني (ص46) "علم آثار المعرفة" و"التأديب والعقاب" (يكتب عناني اسم "فوكو" بغير الشكل الذي يظهر به في الترجمات والكتابات العربية الشائعة، إذ يكتبه في هذه الصفحة وفي (ص17) على هيئة: "فوكوه"). والمترجمان غير معذورين على هذا الخطأ في اسمي الكتابين لأن الكتاب الأول ترجمه الدكتور سالم يفوت إلى اللغة العربية في أواسط ثمانينيات القرن العشرين الميلادية بعنوان "حفريات المعرفة"، المركز الثقافي العربي، بيروت: لبنان، الدار البيضاء: المغرب، الطبعة الأولى 1986م. وتَرجم الكتابَ الثاني بعنوان "المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن" علي مقلد، وراجعه وقدم له مطيع صفدي، بيروت: لبنان، مركز الإنماء القومي، 1990م. والدكتور عناني في الأقل أجدر بألا يقع في الخطأ الذي وقع فيه الدكتور أبو ديب لأن الكتابين كانا معروفين في المجال الثقافي العربي منذ سنين قبل أن ينشر ترجمته. والمسوغ الثالث الذي يسوغ به د. عناني ترجمته أنَّ اللغة العربية "شهدت من التغيرات في ربع القرن الماضي ما لم تشهده على مدار ما يقرب من قرن كامل، وأكاد أقول منذ أحمد فارس الشدياق. . .". ولم يقدم د. عناني أيةَ أدلة واضحة على رأيه هذا إلا إشارات مقتضبة، مع أنه كان يجب أن يأتي بما يسوغ تسويغَه هذا الذي يراه موجبا لإعادة ترجمة "الاستشراق". لكن السؤال هو: لماذا حدد د. عناني "ربع القرن الماضي"؟! لا يمكن أن يخفى على الملاحظ أنه يعني الخمس وعشرين سنة (1981 2006) التي مرت على ترجمة د. كمال أبو ديب! ولنا أن نتذكر أن أبو ديب في مقدمته يشكو من عدم طواعية اللغة العربية المعاصرة للتعبير عن العلوم والأفكار الجديدة، وهذاما حمله على ارتكاب الصعاب لصياغة كلمات وتعبيرات غير معهودة ليعبر بها عن تلك العلوم والأفكار! أما د. عناني فيأتي بهذا المسوغ ليقول إنه ليس بحاجة إلى تلك الكلمات والتعبيرات المرعبة التي جاء بها د. أبو ديب لأنه يستطيع أن يعبر الآن باللغة العربية التي تطورت في الخمس وعشرين سنة الماضية من غير أن يرتكب ما ارتكبه د. أبو ديب! فهو يقول [ص ص 16 17، [لاحظ أن عناني يستخدم هنا الطريقة المصرية المعروفة في كتابة الياء المتطرفة ألفا مقصورة، مع أن اسمه الأخير على صفحة الغلاف ظهر منتهيا بالياء (عناني)!]: إن [مذهبه] "في الترجمة إذن أقرب إلى ‘التقريب‘ منه إلى ‘التغريب‘، فليس الهدف هو تقديم صورة ‘مقلوبة‘ للنص الأصلى بحيث تقرأ من اليمين إلى اليسار بدلا من العكس، ولكن صورة صادقة للأفكار التى يوردها الكتاب وقد اكتست أسلوباً عربياً بمعنى أنها أصبحت تمثل ما يفهمه قارئ اليوم في هذا الكتاب مُعَبَّراً عنه بكلمات عربية واضحة، ولهذا لم أقرأ ما سبق من ترجمات لإدوارد سعيد لأنها، حتى لو كانت حسنة، تمثل ما فهمه غيرى، وفى غير هذه اللحظة، من الكِتَابِ[!]، أو ما عَبَّر عنه غيرى بألفاظ أو بأساليب قد لا تحمل المعنى نفسه لقارئ اليوم". وربما نحتاج إلى قارئ حصيف، كالأستاذة نادية حمد، ليبين لنا المآخذ المتنوعة الكثيرة في ترجمة الدكتور عناني! ومن باب الطرافة أن د. عناني يستخدم تعبير "علامات الترقين" بدلا من التعبير الشائع جدا أي "علامات الترقيم"! فهل يدل هذا على تغير في الذوق اللغوي عند العرب في الخمس وعشرين سنة الماضية؟!! الواقع أنه لا معنى لكثير مما أورده الدكتور عناني في مقدمته عن رأيه في لغة الترجمة "الجيدة"، ولا تدل ترجمتُه على أنه انتهج أسلوبا يمكن أن يكون تطبيقا فعليا لآرائه النظرية عن الترجمة. ما تشكو منه الترجمات إلى العربية حقا أن كثيرا منها يفتقر إلى الأمانة في النقل والدقة في التعبير المؤدي للمعنى بلغة عربية مفهومة. إن كثيرا من التنظيرات التي نقرؤها عن ماهية الترجمة الجيدة إلى اللغة العربية تتعثر أثناء التطبيق لأسباب كثيرة أولها عدم التقيد بالمبدأ الذي يقول إن "الترجمة فنُّ وذوق وأخلاق"، كقيادة السيارة! ومن الملاحظ كذلك أن الدكتور أبو ديب والدكتور عناني شكرا في نهاية مقدمتيهما جمعا من أصدقائهما وزملائهما الذين يقولان إنهم قرأوا ترجمتيهما وأبدوا ملحوظاتهم عنهما. لكن المفاجئ أن أيا من المترجمَين لم يتفضل بكلمة شكر لإدوارد سعيد. أيدل هذا على أنهما لم يستشيراه في ترجمتيهما؟ أم يدل من ناحية أخرى على أنهما ترجما الكتاب من غير إذن إدوارد سعيد المالك الفكري ل"الاستشراق" أو ناشر الكتاب على الرغم من التحذير عمن مثل هذا الصنيع في صفحة بيانات نشر الكتاب الأصل؟

مشاركة :