التوحد مرض مزمن يمكن معايشته

  • 4/24/2016
  • 00:00
  • 18
  • 0
  • 0
news-picture

لم يتوصل العلم الحديث إلى علاج فاعل لمرض التوحد حتى الآن، غير أن الأبحاث العلمية المتطورة استطاعت توفير العديد من طرق التعايش والتفاعل مع المرض شأنه في ذلك شأن أي مرض مزمن آخر لا يمكن الخلاص منه عن طريق العلاج، والأمثلة كثيرة إذا وضعنا في الاعتبار الأمراض الجسمية مثل السكري وارتفاع ضغط الدم وغيرها، إلا أن التوحد يختلف من حيث اعتبارات عدة أهمها أنه يحسب ضمن الأمراض النفسية، كما يختار ضحاياه من بين الصغار ممن لم يتجاوزوا الثالثة من العمر، وأخيراً من حيث اختلاف الأنماط المرضية لذلك المرض، ما يتيح تعدد صور الإصابة. يمكن تعريف التوحد بأنه عجز من جانب الصغير عن التعبير عما في داخله بالطرق الكلامية الطبيعية، فلا يستطيع وصف موقف ما أو شرح شعور يحسه، ما ينعكس على تفاعله مع غيره من أفراد المجتمع ممن يشاركونه العيش سواء في المنزل أو المدرسة أو المحيط الجغرافي، علاوة على فقدانه الحس السليم بسبب التشويش الحسي الذي يعانيه، وبسبب العجز عن التعبير اللفظي الاعتيادي، يضطر الطفل إلى اختيار طرق غريبة في نقل أفكاره ومشاعره وطموحاته ومطالبه، هذه الطرق ربما تكون هيكلية، أي تعتمد على هيكله الجسماني في التعبير، كأن يستعيض عن مناداة أمه مثلاً باستخدام إشارة معينة من يده، أو يلطم خده مرات متكررة، وربما يضرب الطاولة بعنف ليعبر عن استيائه من الوجبة الغذائية إن لم ترقه، أو يصفق بحرارة لو أراد التأكيد على سعادته بفعل أو شخص ما، وهكذا. يعتبر مرض التوحد من المكتشفات العلمية الحديثة، إلا أنه موجود منذ فترات طويلة غير أن أحداً لم يستطع تشخيصه، ويربط بعض علماء الطب النفسي بين ذلك المرض والأعراض العائلية التي ربما تظهر في التاريخ الوراثي لدى مريض ما، ويرى الكثيرون أن وجود ذلك التاريخ الأسري يعرض الطفل للإصابة بنسبة تصل إلى 50%، غير أن أحداً من علماء الوراثة الطبية لم يستطع إثبات ذلك، وتقدر منظمة الصحة العالمية نسبة الأطفال المصابين بالمرض حول العالم بما يقرب من 1% من إجمالي عدد الأطفال، معظمهم من الذكور، ويلاحظ العلماء أن المرض يؤثر سلباً في التطور الاجتماعي للطفل بصورة كبيرة، حيث يتضرر الصغير من صعوبة الكلام أو اكتساب اللغة الجديدة، والتي من المفترض أن يتم له ذلك آلياً من خلال المحاكاة، ولكن يعيق المرض اكتسابه للمفردات اللغوية حتى من الوالدين، كما يتأثر الطفل المصاب بآفة صعوبة التقاط المهارات الاجتماعية المختلفة، والتي يجب أن يتعلمها من دون معلم وبلا تدريب مسبق، حيث إن الطبيعي ملاحظتها من خلال تصرف المحيطين من أفراد المجتمع، مثل المبادرة إلى تحية الزملاء عند الانضمام إليهم، إضافة إلى كل ما سبق يصيب المرض سلوك الطفل بعدم المواءمة، أي الفشل في اختيار السلوك المناسب للموقف، وعلى سبيل المثال يتصرف الطفل الطبيعي بحذر في حضور حيوان مخيف أو كلب شرس، بينما تختلف الاستجابة السلوكية من جانب مريض التوحد إذ ربما يتصور أن اللعب معه تصرف سليم. على الرغم من عدم وجود علاج للمرض، استطاع الخبراء توظيف بعض مقدمي الرعاية الصحية في مجال العناية بالأطفال من مرضى التوحد، لكن الأمر لا يزال يتطلب الكثير من الضوابط والأسباب الداعمة لذلك الاتجاه الصحيح، فعلى سبيل المثال تسهم الثقافة الصحية للوالدين في اكتشاف طبيعة المرض في مرحلة مبكرة تساعد على تلقين الطفل التدريب اللازم للتعايش مع المرض، ويساعد كذلك الفهم الأسري على اتخاذ القرار المناسب بشأن الطفل، بينما يحرم الابن من تلك الفرص إذا كان الأهل في مستوى متواضع من الثقافة لا يسمح لهم بالوقوف على حالة الابن وما يلزمه من دعم نفسي. يلخص الأطباء أعراض المرض في نقاط محدودة أهمها فقدان الطفل زمام المبادرة أو رد الفعل، فلا يبادر مثلاً إلى طلب المعونة من المحيطين إذا واجه مشكلة مثل التعثر على الأرض أو انكسار أو تلف لعبته، كما يتجاهل مناداة الوالدين مع أن رد الفعل الطبيعي ليس كذلك، أما عن العرض الأشهر الذي يعتمد عليه الأطباء في التشخيص أو في استعراض التاريخ المرضي فهو عدم النظر المباشر إلى عيني الأم، وربما اكتسبت تلك العلامة الشهرة الأكبر باعتبارها من الدلالات المبكرة على الإصابة بالمرض حيث من الطبيعي أن يطيل الطفل النظر لأمه اعتباراً من الشهر الثالث، كما يتفاعل معها إيجابياً من خلال الابتسام عندما تلاطفه، والنظر في اتجاه الصوت حتى ولو لم تكن مناداة صريحة باسمه، وفي مرحلة متقدمة من المرض، أي في سن الثالثة أو الرابعة من عمره تظهر دلالات تؤيد الإصابة بالمرض، مثل البرود العاطفي وتجاهل مشاعر الآخرين، فالطفل الطبيعي في هذه المرحلة يتفاعل شعورياً مع الأهل أو حتى مع الغرباء ويهتم لأمر من يداعبه، بل ويقوم الطفل بتقليد الأصوات والتصرفات التي يراها ممن حوله، إلا أن الطفل المريض يفقد تلك القدرة الطبيعية، ويميل الطفل المصاب إلى تكرار بعض الجمل أو العبارات أكثر من مرة خلال الحديث، ما يعكس عجزه عن إدراك أنه قام بالتلفظ بها من قبل. يحذر الأطباء من المضي قدماً في التعامل مع الطفل على أساس إصابته بالمرض من دون تشخيص دقيق يقوم به طبيب متخصص، إذ تتشابه الأعراض مع بعض المشكلات الطفولية مثل ضعف التركيز وصعوبات النطق والتخلف الدراسي والنشاط الحركي المفرط، كما يعاني بعض الأطفال صعوبات سمعية أو نطقية في مرحلة مبكرة من حياتهم، وغيرها، كما يحذرون من اللجوء لغير المتخصصين لاستقاء النصيحة، حيث يعتبر مستقبل الطفل في هذه الأحوال على المحك، يتأثر بالقرار الذي يتخذه الأهل طوال حياته، فالتشخيص السليم يتيح التدريب على المهارات المختلفة بما يحفظ للطفل الإمكانات العقلية واللياقة الذهنية التي تساعده على التعايش مع المرض مستقبلاً، بينما التأخر في التشخيص يعني المزيد من تراجع الوظائف الدماغية والإدراكية، وربما فقدان القدرة على النطق، ما يعني تحوله إلى طفل في حاجة إلى رعاية خاصة. من الممكن كما يوضح العلماء أن يصاب الطفل بالمرض خلال فترة زمنية تالية لولادته، فليس من الضروري أن يولد مصاباً حتى ولو اتسم بوجود تاريخ مرضي عائلي، ولكن ربما تظهر التبدلات السلوكية في مرحلة ما مثل السنة الأولى أو بعد مرور 18 شهراً من ولادته، وهناك أعراض واضحة على وجود مشكلة يجب على المحيطين وضعها في الاعتبار مثل التأخر في الكلام أو الفشل في نطق كلمة واحدة على الأقل عند بلوغ الطفل عامه الأول، إلا أن توقف الصغير عن استخدام بعض المفردات التي استخدمها من قبل يعتبر دلالة لفظية واضحة على وجود مشكلة ربما ترقى إلى التوحد أو قد تعتبر مشكلة عابرة تعكس اضطراباً نفسياً مؤقتاً ناجماً عن وجود ضغط ما عليه. يعتبر الخبراء المختصون في المرض أن المشكلة الحقيقية تظهر عند بلوغ المريض ولا تمثل عائقاً فعلياً عند مرحلة الطفولة، ذلك أن المريض البالغ ربما يعجز عن خدمة نفسه ويحتاج إلى رعاية لصيقة، وهنا ينصح الأطباء بضرورة اللجوء إلى العلاج السلوكي والمهاري الذي يستهدف ترقية تصرفات الطفل إلى المستوى الذي يساعده على خدمة نفسه من دون الحاجة لمساعدة الآخرين، مثل إعداد طاولة الطعام أو تجهيز الخبز أولاً، واكتساب المهارات الحرفية التي تساعده على العمل وكسب المال الذي يعول به نفسه ثانياً، وبالطبع يعتبر مريض التوحد من ذوي الاحتياجات الخاصة ما يستلزم خضوعه لبرنامج تعليمي يناسب صعوبات التعلم الذي يعانيها، علاوة على طاقم متخصص من المعلمين المدربين على تدريس الأطفال المصابين بالتوحد، ومن ثم دمجهم مع باقي الأطفال بعد اكتسابهم الخبرات اللازمة للتواصل الناجح مع الآخرين.

مشاركة :