باخرة ثيسيوس.. أو «ما أنتَ؟» - إبراهيم عبدالله العمار

  • 4/24/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

«باخرة ثيسيوس»، مفهوم في الفلسفة يعني شيئاً يبعث على التأمل العميق لو فكرتَ فيه قليلاً: ماذا يُكوِّنك؟ أتى اسم المفهوم من كاتب يوناني في القرن الأول الميلادي، والذي تساءل: لو أنا أخذنا باخرة للملك ثيسيوس - وهو ملك خيالي في التراث - واستبدلنا كل خشبة من خشباتها بأخرى، هل هي نفس الباخرة؟ لنأخذ السيارة مثالاً معاصراً. تخيل سيارة أصابها حادث قوي، فركبوا محركاً جديداً وغيروا الإطارات والصدّامين والمصابيح الخارجية كلها والراديتر. صارت سليمة الآن. قرر صاحبها تغييير مظهرها، فصبغها لوناً آخر وزاد ونَقَص منها أشياء كثيرة. وهكذا أخذت تتغير قطعة قطعة. متى تتوقف السيارة أن تكون سيارته الأصلية وتتحول إلى سيارة جديدة؟ هل عندما تغير المحرك؟ الهيكل؟ هل هناك نسبة معينة مثل «لو تغيّر أكثر من 50% أو 75% منها فهي سيارة أخرى»؟ ما هو الحد؟ الأمر المثير هو أن الأمر ينطبق على البشر أيضاً! والفضل يعود إلى التقدم الطبي العجيب الذي نعيشه اليوم. لنبدأ بداية صغيرة: إذا قصصتَ من أظفارك أو شعرك فأنت أنت. صحيح أن مظهرك تغير قليلاً لكن أنت لم تتغير. ماذا عن شخص قُطِعَت يده في حادث وركبوا مكانها يداً صناعية؟ هو هو، فقط تغير جزء منه. خلايا الجلد تموت باستمرار وتتشكل مكانها خلايا جديدة، ويتغير جلدك تماماً بعد بضعة سنين. من الخارج أنت شخص جديد! لكن لم تتغير «أنت». هذه واضحة. لكن ماذا إذا زادت المسألة كثيراً؟ لنأخذ مثالاً تخيلاً عن شخص نسميه «ص»، وقع ضحية لانفجار في مصنع كيميائيات. ص فقد أطرافه الأربعة وركّبوا مكانها أطرافاً بديلة. فقد كليتيه وزرعوا مكانها كليتي متبرع. نزف الكثير من دمه فضخّوا فيه دماء متبرعين. احترق وجهه وعوّضوه بزراعة وجه من شخص متوفى (تقنية حقيقية وطُبِّقَت بنجاح). ظهرت أعراض عليه، ورأى الطبيب أن كبده تضررت من الحادث، فزرعوا له كبداً. مستويات سكر الدم ظهر عليها الاضطراب فاستبدلوا بنكرياسه بآخر سليم. اشتكى من ألم في جوفه ورأوا أن أمعاءه متضررة فزرعوا أمعاءً جديدة. اضطرابات في التنفس.. زرعوا رئتين جديدتين. وهكذا تظل العلل تظهر وتُستبدل الأعضاء والأنسجة: قرنية العين، بعض العظام، أوعية دموية، أعصاب، كلها أزالوها من «ص» ووضعوا مكانها غيرها من بشر آخرين، حتى نصل أخيراً إلى أكبرها: زرع قلب. وضعوا ص على قائمة الانتظار حتى تَوفَّر قلبٌ سليم فزرعوه مكان قلبه المتضرر. هل «ص» هو «ص» نفسه الذي نعرفه؟ إذا قلتَ «نعم» فكيف وهو شخص له قلب جديد، بل أيضاً تَغيّر فيه الوجه والكبد والبنكرياس والكليتين والرئتين والدم والقرنية والأمعاء والعظام والأوعية والأعصاب؟ إنه من الناحية الجسدية شخص مختلف تماماً! متى يتوقف الشخص أن يكون «هو» ويتحول إلى آخر؟ متى يتحول «ص» إلى «س»؟ ربما تقول: إذا استبدلوا مخه. ماذا لو وصلنا إلى تقنية تسمح بأن يُزال المخ ويوضع مكانه مخ صناعي ويُفرَغ فيه ما في المخ السابق من ذكريات واعتقادات وأفكار؟ هل الشخص هو نفسه؟ ظهرت أفكار مشابهة لهذه المعضلة الفلسفية، منها مثال الفيلسوف الانغليزي جون لوك في القرن السابع عشر الذي استخدم الملابس مثالاً، وقال: لو أن جورباً انشق ورقعناه رقعة صغيرة، ثم أخرى، ثم ثالثة، وهلم جراً، بعد رقاع كثيرة هل هو نفس الجورب؟ وآخرون استخدموا الفأس مثالاً، فالفأس يتكون من قطعتين، الخشبة والرأس الحديدي، فلو أن الخشبة كُسِرَت ووضع النجار مكانها خشبة أخرى، ثم بعد فترة كُسِرَت الحديدة واستبدلها الحداد بأخرى، فهل هي نفس الفأس؟ ماذا ترى؟ ما الذي يُكوِّن جوهر الشيء، بل جوهر الإنسان نفسه؟. مقالات أخرى للكاتب أطلال عاد.. البحث عن المدينة المفقودة - 8 تركيا التي أحببت أطلال عاد.. البحث عن المدينة المفقودة - 7 العبقري.. العصبي أطلال عاد.. البحث عن المدينة المفقودة - 6

مشاركة :