ربما لا يمكننا الحكم على عمل مسرحي من خلال الصور أو الفيديوهات على مواقع الإنترنت، لكن يمكننا من دون شك سوق ملاحظات كثيرة، ترقى إلى النقد الجوهري، فمثلا يكفي تأمل صور الأعمال المسرحية العربية لنرى التكرار في السينوغرافيا والشخصيات والتصورات الإخراجية، تكرار يصل حد التطابق، وهي ظاهرة تستحق الدرس. قدر لي أن أبتعد عن مشاهدة المسرح وعروضه ردحا من الزمن. تأملت ماذا ربحت وماذا خسرت؟ ربما خسرت مشاهدة مسرحيات جميلة ومتابعة تجارب مسرحية واعدة، وربما ربحت كمية أقل من التوتر عند مشاهدة مسرحيات مملة. أيقنت أن الخسارة والربح متقاربان في زمن مسرحي عربي عصي. وجدت نفسي أتابع المسرح أكثر من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والسوشيل ميديا، التي أصبحت تعج بالمسرح صورا وفيديوهات ربما أكثر من الخشبات المسرحية العربية. وتساءلت: هل يمكن أن نبني فكرة نقدية عن بعض المسرحيات فقط من صورها على السوشل ميديا؟ هل يمكن أن نبني نقدا للمسرح دون مشاهدته؟ السؤال صعب ومغر، قد يبسطه البعض فيقولون إننا سنكون بصدد نقد الصورة، وهو مجال واسع في علم السيميولوجيا. ولكن المسار الذي أقترح مختلف عن نقد الصور وتحليلها، لأن الغاية ليست الحكم على الصورة في حد ذاتها، ولكن تكوين فكرة عن المسرحية من خلال صورها، والكشف عن براديغمات (Paradigms) الإخراج المسرحي لهذه المسرحيات. بديهي أن مشاهدة صور المسرحية لوحدها تقصي الدراما وحبكتها، والممثل وإيقاعه وبقية العناصر، وتركز على الإنجاز البصري، أي الجهد الإخراجي المبذول فيها. بل إنها تقصي التتابع في الصور والحركات أي تقصي الحكي المسرحي. نعم، الصورة لحظة مقتطعة من زمن المسرحية، ويصعب الاعتماد عليها؛ كما أنها من عمل مصور وليس من عمل المخرج؛ ورغم ذلك فهي دالة كثيرا على اختيارات المخرج المسرحي، وتقدم نموذجا منفردا لهذه الاختيارات لا إطناب فيه. تابعت على صفحات الفيسبوك صورا عديدة للمسرحيات التي قدمت مؤخرا في مهرجان الهيئة العربية للمسرح في بغداد (يناير 2024)، وتبلورت عندي فكرة أن العديد من المشاهد في مسرحيات مختلفة وقادمة من جغرافيات متنوعة، كأنها خرجت من مخيلة مخرج واحد. تماثل إخراجي كبير تكرار السينوغرافيا نفسها ◙ تكرار السينوغرافيا نفسها لنشاهد مثلا صورا من مسرحية فريمولوجيا من الأردن، والثانية من أنتيجوني من الأردن، والثالثة من مسرحية كلام من المغرب، والأخيرة من مسرحية حياة سعيدة من العراق، هي صور لمشاهد اعتمدت أساسا على تقديم الممثل والتركيز عليه بمحو كل ما يحيط به عبر ثنائية الضوء والظلام. وإذا لم يكن المصور هو الذي تحايل على المشاهد لأخذ هذه الصور بهذا الشكل العزيز كثيرا على المصورين، فإننا أمام حالة تماثل ذهني رهيب في الإخراج المسرحي، حيث نشاهد مسرحيات مختلفة للغاية، ولكن باقتراحات جمالية ذات نفس المرجعية. ليس هناك أجمل من وضع ممثل وسط الخشبة يلقي دوره بإتقان، وتركيز الإضاءة عليه وعلى ما يلبس من ألوان، ثم لفه من كل الجوانب بالظلام، فيبدو الممثل متفردا وحيدا بطلا تلتف حوله عيون المشاهدين. نعم، ولكن تكرار هذا الأسلوب في مسرحيات كثيرة، وأحيانا في مسرحيات متعددة لنفس المخرج يؤشر على أساليب مستعملة ومستهلكة في الإخراج المسرحي. ◙ تماثل ذهني رهيب في الإخراج المسرحي إذ نشاهد مسرحيات مختلفة للغاية، ولكن باقتراحات جمالية ذات المرجعية نفسها لنأخذ نماذج صور لمسرحيات أخرى، حيث ساد استعمال كوادر الخشب في السينوغرافيا بشكل لافت ومتتال بين عدد من المسرحيات حتى أننا نتساءل عن السر وراء ذلك. بين مسرحية فريمولوجيا من الأردن ومسرحيتيْ نايضة تو وشطارا لأمين ناسور من المغرب، ومسرحية فطائر التفاح من المغرب أقبل المخرجون على الاستعانة بإطارات خشبية، بينها بعض الاختلاف، ولكن الأصل موحد، مثلما أن الاختيار موحد. سيقول البعض إن الاستعمال مختلف، أكيد، ولكن الشكل نفسه، والفكرة الإخراجية نفسها، وربما تمددت في بعض المسرحيات إلى استعمال إطارات ضوئية تقريبا لتوظيف الميديا، ولكن استعمال الإطارات الخشبية قديم، وربما بنفس الشكل، لأننا سنعثر على مسرحية “تشابك” السعودية سنة 2017 استعملت تقنية الإطار الخشبي نفسها. وبعدها ستكون الإطارات الخشبية "بطلا" في مسرحية "رحل النهار" لمحمد العامري، وإذا عدنا إلى مرحلة أقدم سنعثر على الإطارات الخشبية في بدايات المسرح الإماراتي، والصورة المسرحية في بدايات المسرح الإماراتي لا أتوفر على تفاصيلها. تكرار السينوغرافيا ◙ فكرة نقدية واصلة ◙ فكرة نقدية والأكيد أننا لن نعدم العثور على ديكورات من إطارات خشبية في العديد من المسرحيات العربية، هنا وهناك، فالإطار الخشبي آلية سهلة تستعمل بأشكال ووضعيات متعددة وتخلق محتويات متنوعة، ولو وضعته على عجلات صغيرة ليتحرك حسب ما تطلب سيكون أفضل؛ قد يكون سجنا أو دكانا أو باب غرفة أو نافذة أو معزلا أو مدخل دهليز أو ما تشاء. أذكر أن من المسرحيات الأولى التي شاهدتها في مساري المسرحي وتستعمل الإطارات الخشبية بنفس الطريقة، كانت مسرحية المؤلف المغربي محمد قاوتي "نومانس لاند" من إخراج إبراهيم نشيخ بمدينة كازابلانكا سنة 1989 على ما أذكر، بالكاد عثرت على هذه الصورة التي تبرز جزءا من الإطار الخشبي تتوسطه الحبال بما يفيد استعماله للدلالة على السجن. نحن أمام ذهنية إخراجية موحدة، لا تكاد تختلف في اختيار النص والشكل الإخراجي، حتى تتوحد في مفردات الإخراج، وفي مفاصل قد تكون جزئية ولكنها دالة: في لحظة ما سيستعمل المخرج إطارات خشبية، وفي لحظة ما سيعم الظلام الخشبة لتنزل الإضاءة على الممثل وحده. أما الدخان، فحدث عن استعماله في المسرح العربي دون حرج، ولا ندري سبب الإقبال الكبير عليه في صناعة الفرجة المسرحية العربية، خاصة في المشرق. أكيد أن الدخان يخلق جوا شاعريا على الخشبة، وينسجم مع العديد من المشاهد الدرامية التي تحاول خلق سحر خاص أو مناخ متميز وغرائبي، كما أنه يساهم كثيرا في إبراز الإضاءة المسرحية ومنحها جمالية خاصة، بل إنه الوسيلة الأسهل لإبراز خطوط الإضاءة وفرزها؛ وربما لهذه الأسباب ولغيرها أصبح الدخان اختيارا مترددا عند المخرجين وعند مهندسي السينوغرافيا كذلك. ولكنه أسلوب أصبح مستهلكا للغاية، وأصبح أسهل طريق لخلق الأجواء السحرية والعميقة أو فرز ألوان الإضاءة وخيوطها هو ملء الخشبة بالدخان. في النهاية، استهلاك وتكرار أسلوب ما يكشف عن مخيلة معطلة، وليس عن ذكاء إخراجي. لسنا بصدد تعميم هذه النمطية على كل إنتاجات المسرحي العربي وتجاربه في الإخراج، ولكننا نعتقد أن هذا المسرح في العديد من تجلياته، يحتاج إلى تجديد ذهنية الإخراج المسرحي فيه، والبحث عن أساليب وخيارات جمالية جديدة تبتعد عن الرغبة في الإبهار، وعن الركون إلى العادة والأساليب النمطية. وهذا رهان حقيقي بدأت بعض التجارب المسرحية الشابة تخطو فيها خطوات أولى.. ولكن الإنجازات تحسب بتراكم الخطوات، وذاك رهان صعب..
مشاركة :