طالت الدقائق، وأنا أقلب قلمي بين إصبعي لا أدري ماذا أكتب، ومن أين أبدأ؟ بعد مساء سعودي بامتياز استقبلت فيه الرياض عشرات الوفود الذين جاءوا من كل مكان من أجل رجل رحل عن الدنيا ولكنه باق فيها بشكل آخر، ولا أظنه يرحل عنها أبدا، فهو حاضر بقوة ووضوح رغم أنف الغياب، رجل لا يوفيه حقه كل ما قيل عنه، وكل ما لم يقل بعد عنه وعن حق العقود الأربعة التي قضاها يجوب أقطار العالم متحدثاً بلسان المملكة العربية السعودية في القضايا المحلية والعربية والإسلامية حاملاً بين كفيه حمائم السلام لبلاد الآخرين قبل بلاده، وكانت كلماته قد صنعت خطاً خاصاً للسياسة السعودية الخارجية تسير عليه ومنه صنعت الصورة الخارجية للبلاد. كانت كلماته على المنابر العالمية محملة بكثير من الود المضمخ بالسلام حيناً، وتأتي في وقت آخر حادة ولاذعة حين يتطلب الأمر لغة القوة الحاسمة، ولهذا قيل عنه: إذا صمت حير، وإذا تكلم أذهل، وإذا غضب أربك العالم. يا له من مساء اختنقت فيه الدموع بين أقواس الفخر برجل دولة من الطراز الأول الذي لن يتكرر. ففي السياسة له شأن لا يجهل، وفي القلوب والعقول شؤون أخرى يختصرها ذاك الحضور الضخم في حفل سعود الأوطان الذي كان له بين إخوته بصمات تحسسناها في كلماتهم عنه ولعل أبلغها كلمة خالد الفيصل التي جاءت مختصرة ومحددة بجمل قصيرة ختمها بقوله: ثم رحل ثم عاد على عجل محمولاً على أكتاف التاريخ والأجل بطل والسلام. لقد جمع خالد الأخ والشاعر كل مشاعره ومشاعرنا معه في سيرة مختصرة ومختلفة لسعود الفيصل حبست أنفاس الحضور وهم يسترجعون ما كان لسعود الفيصل على أبناء وطنه من بصمات أخرى، وعلى غيرهم من أبناء العالم العربي والإسلامي، فهو نموذج يحتذى، وهو قبس يستضاء به؛ فأقواله وأفعاله كانت شاحذة لهمم الشباب الذين كان ملهماً لهم ومرشداً في دروب السياسة، كما كان كذلك لرجال السياسة والصحافة الذين عاصروه وعرفوه عن قرب وأدركوا قدرته وحكمته. غريب أن يكون لوزير خارجية هذه المكانة- التي تحفها عشرات الحكايا عن مآثره العامة وأثره الخاص على الآخرين إذ أكاد أن أجزم بأن كل الذين اجتمعوا في قصر الملك عبدالعزيز للمؤتمرات من أجله يحملون عنه ذكرى خاصة حتى وإن لم يعرفوه عن قرب أو التقوا به يوماً؛ لأنها تخصهم وحدهم فقط أما أنا فقد خصصت له في أول شبابي مجلداً خاصاً أجمع فيه أقواله وصوره قبل أن أعي مكانته المهابة بين الأمم. ولكن أثره الخاص لم يتوقف عندي، فقد امتد مني لابنتي التي عرفته وهي في المرحلة المتوسطة من الدراسة حين عملت على إنجاز بحث عن القضية الفلسطينية ومنه تعرفت على سعود الفيصل الذي أبهرها بأقواله ومواقفه ورأت فيه شخصية سياسية فذة أولت قضية العرب الأولى جل اهتمامها، شخصية تجمع بين الجد الحازم، والهزل المضحك الموجع. تطور الأمر ونما أثره في عقلها حتى صار ملهماً لها وكأنه يأخذ بيدها لتقرر وهي في أول مرحلتها الثانوية أن تتخصص في العلاقات الدولية لتقترب من ميدان سعود الفيصل. تقول: كنت عندما أشعر بالإجهاد من أعباء الدراسة الجامعية وضغوطها تبرز صورة سعود الفيصل في مخيلتي فأجدني أبتسم وأستمر وأنا أحمد الله بأني اخترت هذا التخصص. لم تكن من المدعوين للحفل ولكنها أصرت على الحضور لتتابع الحفل عبر جهازها في بهو الفندق وهي تبكي وتضحك في الوقت نفسه ثم لتحضر الندوات والمحاضرات التي تحدثت عنه. إن أمثالها كثر بين شباب الوطن الذين تفاعلوا مع مواقف سعود الفيصل حينما أتاحت لهم مواقع التواصل الاجتماعي أن يعبروا عن آرائهم ويعلنوا عن أنهم يعدونه مصدر فخر لهم يوازي فخرهم بملوك بلادهم الذين عمل سعود الفيصل تحت مظلة حكمهم باسم بلاده في محافل الأرض السياسية من أقصاها إلى أدناها. في ذلك المساء قال مذيع الحفل: إن سعود الفيصل صانع ماهر للتاريخ بكل مراحله.. وهو كذلك فعلاً ليس على المستوى الدولي فحسب، وإنما على المستوى الفردي للأشخاص الذين تأثروا به واستفادوا منه مهما كانت مكانتهم ومن أولئك أسماء بارزة من رجال الدولة في الشؤون الوطنية وخارجها من رجال السياسة والصحافة ممن عرفوه عن قرب وتحدثوا عنه لا كوزير للخارجية فقط وإنما كرجل دولة وضع بصماته على مسيرتها التنموية ورؤيتها الاقتصادية بل وفي شؤون المرأة التي مكنها في السياسة الخارجية كممثلة لبلادها في سفارات خادم الحرمين الشريفين في كثير من عواصم العالم منذ سنوات. رحل سعود الفيصل، ولكنه رحيل محير كشأن العظماء في العالم الذين يكون غيابهم تأكيدا مستمرا لحضور متميز لا يعترف بالغياب.
مشاركة :