استشراء ظاهرة المخدرات في العراق استهلاكا وتجارة وتهريبا إلى بلدان الإقليم يعدّ مظهرا آخر للفشل السياسي والاقتصادي والتنموي في البلد المحكوم من قبل قوى سياسية دينية تدعي نشر الفضيلة في المجتمع، وتشاركها الحكم ميليشيات مسلّحة ضالعة بشكل مباشر في تهريب المواد المخدّرة وترويجها محليا وتصديرها إلى الخارج. بغداد - ترسّخت السمعة السيئة للعراق كمعبر رئيسي لتهريب المخدرات والاتجار بها واستهلاكها محليا، وباتت موضع انشغال دولي وأممي تجسّد في تقرير نشرته الأمم المتّحدة الاثنين وتضمّن تحذيرا من أنّ البلد يشهد طفرة مواد مخدّرة غير مسبوقة. وبتحول العراق إلى معبر للمخدرات نحو بلدان أخرى يغدو مصدر تهديد إضافي لاستقرار الإقليم وسلامة مجتمعاته، بعد أن مثّل لعقود طويلة بؤرة للصراعات المسلّحة والتوتر الأمني تغذّت خلال العقدين الأخيرين من فوضى السلاح وبروز ظاهرة الميليشيات المنازعة لسلطة الدولة وقوّاتها النظامية. ويعتبر استشراء ظاهرة المخدّرات ذات النتائج الصحية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية الخطرة، كذلك، وجها لفشل النظام السياسي القائم في العراق في مرحلة ما بعد الغزو الأميركي له، والذي تقوده بالأساس أحزاب دينية ترفع شعارات أخلاقية وتروّج لنشر الفضيلة في المجتمع. وحذّرت الأمم المتحدة في تقريرها من أن العراق بصدد التحول إلى محور رئيسي لتهريب المخدرات. وذكرت أنّ السلطات العراقية صادرت العام الماضي كميات قياسية من حبوب الكبتاغون تصل قيمتها الى 144 مليون دولار. وتزامن التقرير الأممي مع احتضان العاصمة العراقية بغداد، الاثنين، مؤتمرا شارك فيه وزراء ومسؤولون من دول إقليمية وعربية بهدف تعزيز التعاون المشترك في مجال مكافحة المخدرات. وأورد التقرير الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة أنّ العراق شهد طفرة هائلة في الاتجار بالمخدرات واستهلاكها خلال السنوات الخمس الماضية، لاسيما حبوب الكبتاغون المخدرة والميثامفيتامين. إدمان المخدرات في العراق مرتبط بالوضع الاجتماعي والاقتصادي والاضطرابات النفسية المترتبة على سنوات العنف الدموي وبحسب ذات التقرير صادرت السلطات العراقية في العام 2023 رقما قياسيا بلغ 24 مليون قرص كبتاغون يفوق وزنها 4.1 طن، وتقدّر قيمتها بما بين 84 مليون دولار و144 مليون دولار بحسب سعر الجملة. وأشار التقرير إلى أنّ مضبوطات الكبتاغون زادت بنحو ثلاث أضعاف بين العامين 2022 و2023، لافتا إلى أن المضبوطات في العام الماضي هي أعلى بمقدار 34 مرة من تلك المحققة في 2019. والكبتاغون تسمية قديمة لعقار يعود إلى عقود مضت، لكن تلك الحبوب، وأساسها الأمفيتامين المحفّز، باتت اليوم المخدّر الأول على صعيد التصنيع والتهريب وحتى الاستهلاك في منطقة الشرق الأوسط. كما حذر التقرير الأممي من أنّ العراق معرض لأن يصبح محورا متزايد الأهمية بالنسبة إلى منظومة تهريب المخدرات عبر الشرق الأوسط والأدنى، حيث يقع البلد في نقطة تقاطع منظمة عالمية معقدة لتهريب المخدرات. وغالبا ما تعلن بغداد ضبط كميات كبيرة من المواد المخدرة أبرزها الكبتاغون الذي يتمّ تهريبه بشكل أساسي من سوريا التي باتت المصدر الرئيسي لتصنيع تلك الحبوب المخدرة. وورد أيضا في التقرير أن 82 في المئة من حبوب الكبتاغون المضبوطة في المنطقة بين عامي 2019 و2023 مصدرها سوريا، يليها لبنان بنسبة 17 في المئة. ويتحول العراق تدريجيا أيضا إلى ممر لتهريب الميثامفيتامين، ومصدره الأساسي جنوب غرب آسيا وخصوصا أفغانستان، نحو دول الخليج وأوروبا. وسجّلت في العراق زيادة في المضبوطات تناهز ستة أضعاف بين 2019 و2023. السلطات العراقية صادرت في العام 2023 رقما قياسيا بلغ 24 مليون قرص كبتاغون يفوق وزنها 4.1 طن وحذر تقرير الأمم المتحدة من أنه رافقت ارتفاع عمليات نقل المخدرات عبر العراق والدول المجاورة، زيادة في الاستهلاك المحلي في جميع أنحاء البلاد. وكثفت حكومات دول المنطقة مؤخرا جهودها لمكافحة تهريب المخدرات بضغط أساسي من دول الخليج وعلى رأسها السعودية. وخلال المؤتمر المنعقد الاثنين في بغداد حذر رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني من أن انتشار المخدرات والمؤثرات العقلية عامل أساسي من عوامل عدم الاستقرار في المنطقة. وقال خلال افتتاحه أعمال مؤتمر بغداد الدولي الثاني لمكافحة المخدرات بمشاركة وفود على مستوى وزراء الداخلية وأجهزة مكافحة المخدرات من تسع دول عربية وإقليمية والأمين العام لمجلس وزراء الداخلية العرب إنّ “مكافحة المخدرات مسؤولية تتحملها الدولة بكل أجهزتها وأذرعها كما تتحملها مجتمعاتنا بجميع عناوينها الاعتبارية”. وأضاف “تهديد المخدرات لا يقتصر على الضرر الذي تستهدف به شبابنا بل يعني أن مستقبلنا بمجمله يقع في دائرة الأخطار وأن التخادم بين الإرهاب وعصابات المخدرات يسعى إلى خلق مناطق معزولة تخرج عن سيطرة القانون”. ويقول خبراء دوليون في مجال مكافحة المخدّرات إن الميليشيات المسلحة التي ينشط الكثير منها على أرض العراق، وبينها فصائل كثيرة موالية لإيران وبعضها مشارك في الحكم بشكل مباشر عبر المجلس التنسيقي الشيعي وممثل تحت قبة البرلمان عن طريق كتل تابعة له، ضالعة بدورها في التخادم مع العصابات التي تحدّث عنها السوداني وبعضها متورط بشكل مباشر في تهريب المخدرات والاتجار بها لتغطية النفقات الكبيرة من تسلّح ورواتب للمقاتلين وغيرهما. الأحزاب السياسية والميليشيات العراقية غالبا ما تحمي المهربين وتسهل عملياتهم ما يفسّر تحول معبر البصرة الحدودي بين العراق وإيران وتؤكد مصادر محلية أنّ الأحزاب السياسية والميليشيات العراقية غالبا ما تحمي المهربين وتسهل عملياتهم ما يفسّر تحول معبر البصرة الحدودي بين العراق وإيران، على سبيل المثال، إلى مركز عبور رئيسي. وتسيطر قوات الحشد الشعبي ذات الأغلبية الشيعية على نقاط التفتيش الرئيسية، وتعلن أنّها جزء من محور إقليمي “مقاوم” تقوده إيران يمتد إلى لبنان وسوريا، لكن المصادر تقول إنّ المحور نفسه يسخّر سلاحه وسطوته الأمنية في تهريب المواد المخدّرة والمتاجرة بها وللحصول على تمويل ذاتي يغطي المصاريف الكبيرة لتلك الفصائل. وترتبط برواج تجارة المخدرات في العراق ظاهرة الإدمان التي أصبحت مرئية بشكل واضح بين فئات المجتمع العراقي، وهي ظاهرة تتصل أيضا بالتقلبات الاقتصادية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، فضلا عن استشراء العنف وبلوغه خلال العقد الماضي مديات ذات تأثيرات نفسية وسلوكية واضحة على الكثير من العراقيين. وحذّر المحلل والباحث في شؤون الشرق الأوسط جوشوا ليفكوفيتش، ضمْن مقال نشر مؤخرا من وجود تلازم بين التوترات الأمنية والسياسية واستشراء الاتجار بالمخدرات وإنتاجها واستهلاكها. وشدد على أن المشاكل الأخرى التي تواجه العراق مثل زيادة الهجرة من الأرياف إلى المدن بسبب تغير المناخ، قد تدفع المزيد من الشباب العراقيين إلى التورّط في استهلاك المخدرات والاتجار بها. ولمواجهة الأزمة يرى جوشوا ليفكوفيتش أنه ينبغي على الحكومة أن تركز اهتمامها على الممرات الرئيسية لتهريب المخدرات مع تعزيز علاج المدمنين وإعادة التأهيل. وعلى صعيد خارجي يتوجب على بغداد بحسب ليفكوفيتش أن تعمل مع الدول المجاورة على البناء على الاتفاقيات القائمة التي تهدف إلى مكافحة الجريمة العابرة للحدود الوطنية ومعالجة مشكلة تعاطي المخدرات. اقرأ أيضا: • صراع السيطرة على الإدارات المحلية يزيد تأزيم المشهد السياسي في العراق وجاء المؤتمر بمثابة خطوة نحو تجسيد هذا المنظور. وقال السوداني خلاله إنّ “الترابط بين الإرهاب وزمر المخدرات يستهدف زعزعة أمننا وهز الأسس المستقرة لمجتمعاتنا وقد جرى استخدام المخدرات في تجنيد الإرهابيين من أجل خلق منطقة غير آمنة ووقف التنمية وإضعاف الأوطان”. وحذر السوداني أيضا من أن “فعل المخدرات لا يختلف في نتائجه عن الحروب والتهجير، معتبرا أنّ “المخدرات لم تعد مجرد عقاقير كيميائية تلعب بعقول بعض الأفراد والمتعاطين، بل هي وسيلة لتدمير المجتمعات من الداخل”. وبشأن جهود حكومته في مواجهة الظاهرة قال السوداني “أولينا هذا الملف رعاية واهتماما مركزا منذ اليوم الأول لعملنا لحماية المجتمع من تهديد يستهدف الشباب والأساس الأخلاقي والقيمي للمجتمع”. وعلى صعيد عمليّ ذكر أن الحكومة شرعت في “جملة إجراءات وقرارات استهدفت تفتيت قدرة الجماعات الإجرامية العاملة على نشر هذه السموم ورفع مستوى حصانة المجتمع ضمن إستراتيجية وطنية شاملة لمكافحة المخدرات”. وأشار إلى أنّ “العصابات الخارجة الضالعة في تجارة المخدّرات تستهدف صنع الفوضى والانحلال وأن أنشطة هذه التجارة اختلطت بالإرهاب الممول من جهات معادية لا تتورع عن دعم الجريمة لتحقيق أهداف سياسية”. كما أكدّ السوداني أن “العراقيين الذين نجحوا في محاربة الإرهاب ودحره على مدى عقدين كاملين، هم جاهزون لتوظيف خبراتهم في المجال الاستخباري والتنسيق الأمني المشترك بأوسع ما يكون”، معتبرا أن “التنسيق والتعاون لملاحقة عصابات المخدرات وتفكيكها سيخدم الأمن الإقليمي والدولي”. وعبّر عن استعداد حكومته للتعاون مع بلدان المنطقة في مواجهة ظاهرة المخدرات ودعمها “لكل جهد يستهدف القضاء على بؤر هذه السموم ومحطات تصنيعها وقطع سلاسلها وتقديم المسؤولين عنها للعدالة”. وصدر عن المؤتمر بيان ختامي مشترك تضمن توصية المشاركين فيه بـ”تعزيز آليات العمل المشترك واعتماد مبدأ التكامل في العمل الأمني من أجل قطع طرق تهريب المخدرات”.
مشاركة :