من فلسفة ميكانيكا الكوانتم وعِليتها المفقودة إنه لطالما حير هذا العالم المتناهي في الصغر (عالم ميكانيكا الكم) العلماء وإلى اليوم؛ فليست ميكانيكيته جزيئاً ولا هي موجة. وليس لها قانون ثابت. وثمة أمر آخر أكثر يسراً في الرؤية ولكنّه غريب غرابة الكوانتم. فلو رأينا برغياً في حلقة واسعة عليه؛ فإنّنا نبادر فوراً إلى استبداله برغياً كبيراً به حتّى يتناسبَ مع حجم الحلقة. ولو لبس أحدنا قميصاً أكبر من جسمه لبادر من فوره إلى تبديله. علماً أن الجسم يكون أكثر حرية وأكثر انتفاعاً حين يكون بقميص أكبر، وهذا ما نفعله مع أطفالنا الصغار في أغلب الأوقات؛ إذ نختار لهم المريح الواسع. والأغرب من هذا وذاك أن هذا التنافر الجمالي ينطبق على حياتنا الفكرية أيضا؛ فكلنا حين كنا صغاراً كنا نتحرك بحرية أكبر في دائرة أفكارنا حول القضايا الكبرى؛ كالمعتقد والأعراف والعادات وغيرها. وكنا ننتقد جمودَ الكبار وتقيدهم ونسميه جموداً وتقليدية. وحين كبرنا صرنا مثلهم؛ لكنّنا صرنا نراه كما كانوا يرونه لا كما كنّا نسميه جموداً؛ بتنا نراه التزاماً ووعياً وانضباطاً وأخلاقاً. ثمة عِلّية مفقودة في تفسير هذه العلاقات الجدلية. لكنّنا لو بحثنا عن القاسم المشترك بين النماذج الثلاثة؛ لوجدنا أنه كلما كان الشيء صغيراً كان أكثر حريّة وأقل إشباعاً للمكان. وكلما كبر صار أكثر إشباعاً للمكان وصار يخضع لمتطلبات التناسب الجمالي للحجم الذي يقيد عليه حركاته. فحين يكبر حجمك تصغر مساحة حريتك، ويبرمج لك عقلك هذا التضيق على أنه تناسب جمالي؛ ليحقق للمكان شهوته وليقنعك برغبته في تقييدك وإيهامك بمكانتك. فأنت أمام خيارين: إما أن تبقى صغيراً فتتحرك بحريتك وتأخذ حقك من المكان. وإما أن يكبر حجمك فيأخذ المكان حقه منك. ومنذ وُجد الفكر البشري وهو يخدعنا أننا كلما كبر حجمنا صرنا نأخذ حقنا من المكان وصرنا أجمل. وكلما صغر حجمنا صار المكان يأخذ حقه منا وفقدنا جمالنا. هذه سنة الحياة وميكانيكا حركتها؛ نسعى بكل ما أوتينا لتكبر أحجامنا؛ فنبلغ وهماً اسمه المكانة، ونملأ حقيقة اسمها السجن. مثلما نسعى بكل ما أوتينا لنطارد وهماً اسمه غداً فنبلغ حقيقة اسمها القبر. فالمكانة قبر كبير مثلما الموت سجن صغير.
مشاركة :