منذ اليوم الأول للحرب على قطاع غزة، اتضحت صورة الحرب كونها حربا للإبادة شاملة الأبعاد، لتدمير كل مصادر حياة الناس في القطاع المحاصر بالنيران جواً وبحراً وبراً، بهدف شديد الوضوح، وهو دفع الناس للهجرة القسرية لانعدام الأمل باستعادة ما يمكن الناس من البقاء. وطوال الأشهر العشرة الماضية، تمكنت الأطراف المساندة للمقاومة وكذلك واشنطن من تفويت الفرصة على نتنياهو بمنع انزلاقها لحرب إقليمية لتوريط الولايات المتحدة، التي وقفت وتقف إلى جانب العدوان الإسرائيلي دون أية مواربة، ولكن دون الانجرار إلى توسيع دائرتها. واشنطن لا تريد التورط في حرب إقليمية فالولايات المتحدة التي وفرت الغطاء السياسي و«القانوني» لهذه الحرب، وأرسلت أساطيلها وأنشأت جسوراً جوية وبحرية لمد إسرائيل بكل ما تحتاجه من أسلحة وأموال، وانخرطت في محاولة شيطنة المقاومة الفلسطينية، قامت بكل ذلك ليس فقط بفعل التزامها الاستراتيجي بأمن إسرائيل وتفوقها العسكري الذي بات محل تساؤل خطير، إلا أن هذا الدعم والتواجد في مياه البحرين المتوسط والأحمر استهدف بطاقة حمراء لحلفاء ما يُعرف بمحور المقاومة الذي تقوده إيران، كي تمتنع عن الانخراط بأقصى قدراتها في دعم المقاومة الفلسطينية، وبما يحد من وجهة نظرها من خطر الانزلاق نحو مثل تلك الحرب الإقليمية. حرب استنزاف لإسناد المقاومة الفلسطينية وبالمقابل، فقد تمكنت المقاومة اللبنانية من فرض قواعد اشتباك في سياق الموقف الإيراني، الذي لا يرغب إطلاقاً في الانخراط المباشر في هذه الحرب، واقتصارها على حرب استنزاف طويلة الأمد، تهدف لمنع هزيمة المقاومة الفلسطينية في القطاع، وكذلك الأمر بالنسبة للحوثيين والمقاومة العراقية، حيث حدد المحور بكل أطرافه بأن مشاركتهم الإسنادية تنحصر في وقف حرب الإبادة ضد القطاع، وفتح معابره للإغاثة الإنسانية، وليس أكثر من ذلك . حرب الاستنزاف تلك، والتي فشلت فيها إسرائيل في تحقيق أي من أهدافها الاستراتيجية، باستثناء عار ارتكاب جرائم الإبادة وجرائم الحرب وضد الإنسانية. فقط نتانياهو وعصابة حكومته الفاشية هم من يرغبون باستمرار هذه الحرب، وهذا ما يُفسر تلاعب نتنياهو المستمر في إمكانية التوصل إلى صفقة لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، رغم إعلان بايدن لما عرف بمبادرته التي نسبها لإسرائيل، ورسَّمها في قرار لمجلس الأمن، الذي رحبت به المقاومة، ومع ذلك يواصل نتنياهو التلاعب بهذا الأمر، ضارباً بعرض الحائط المصالح الأميركية سواء الانتخابية منها، أو تلك المتصلة بمصالحها في المنطقة، وجوهرها عدم انجرار واشنطن لحرب إقليمية، يعمل نتنياهو لتوريطها فيها، إرضاءً لمصالحه السياسيّة الشخصية للبقاء في الحكم، والإفلات من أي مساءلة على قضايا فساده أو مسؤوليته عما بات يعرف «بفشل السابع من أكتوبر». مآرب نتنياهو في حرب الاغتيالات في هذا السياق يُمكن تفسير لعبة نتنياهو ومغامرة تصعيده، بُعيد زيارته لواشنطن، التي على ما يبدو، ورغم احتفاليته في كونجرس التصفيق، فقد سمع من المسؤولين فيها ويبدو لأول مرة كلاماً جدياً بضرورة وقف الحرب، ولكي يلوي عنق هذا الموقف، نفذ نتنياهو مغامرته الخطرة بالإقدام على اغتيال فؤاد شكر أبرز قادة حزب الله العسكريين، ومن ثم اللعب بالنار مع طهران باغتيال زعيم حركة حماس ورئيس مكتبها السياسي القائد الوطني الكبير إسماعيل هنية، ليضع محور المقاومة برأسه وأطرافه أمام واقع إما تفكيك المحور للاستفراد بغزة، أو الرد على جرائمه التي مست سيادة وشرف إيران، وتجاوزت خطوط حزب الله باستهداف الضاحية الجنوبية في بيروت. بهذا المعني لم يعد أمام إيران سوى الرد، وليس فقط وفق قواعد الرد الرمزي على ضرب قنصليتها في دمشق، بل وربما بإعادة تأكيد وحدة المحور الذي تقوده بتنفيذ ضربة منسقة مع أطرافه. السؤال الذي ستجيب عليه الساعات القليلة القادمة هو: إذا كان مثل هذا الرد سيتلوه رد إسرائيلي وبأي درجة؟ وهل ستكون واشنطن قادرة على احتواء ذلك أم لا ؟ فطبيعة الضربة، ومدى قدرة واشنطن على كبح جماح نتنياهو من خلال التدخل الأميركي المباشر في صد هجمات طهران وأطراف المحور، سيقرران فيما إذا كانت المنطقة مقدمة على حريق كبير أم محدود ويمكن السيطره على نيرانه المشتعلة. الوحدة شرط لانتزاع الحرية وتقرير المصير والعودة في كل الأحوال، ورغم مركزية القضية الفلسطينية وحرب الإبادة التي ما زال القطاع يعاني من ويلاتها، إلا أن مخاطر الحرب الإقليمية باتت تُغطي على ما يجري في القطاع، سيما في ظل غياب رؤية فلسطينية موحدة وخطة استراتيجية قادرة على إبقاء مسألة وقف الحرب على القطاع، ومواجهة حرب الضم والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية بما فيها القدس، في صدارة الاهتمام الدولي، واستثمار التحولات المهمة في الرأي العام الدولي، بما في ذلك خطر الحرب الإقليمية، لتطوير هذه التحولات إلى إجماع دولي شامل لإنهاء الاحتلال، وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، وتجسيد سيادته على دولته المستقلة وعاصمتها القدس على حدود 1967، وإيجاد حل عادل لقضية اللاجئين بتنفيذ القرار 194 وقواعد القانون الدولي المتصله بها. من البديهي أن شرط تحقيق ذلك يكمن فقط بقيادة وحدة وطنية تضم الجميع تحت مظلة منظمة التحرير، وحكومة توافق وطنية انتقالية لمدة تمكنها من إعادة إعمار القطاع وضمان رفع الحصار عنه، وعزل مخططات إسرائيل التوسعية لضم الضفة الغربية، والتحضير لانتخابات عامة شاملة لجميع مؤسسات الوطنية الفلسطينية الجامعة. ما العمل لاستعادة الوحدة؟ السؤال الأخير هو: ما العمل أمام عدم استجابة القيادة المتنفذة للإرادة الشعبية التي طالما دعت إلى ذلك، وآخرها إعلان بكين الذي لم يجف حبره بعد، حتى بدأت الأطراف، التي لها مصلحة في استمرار واقع الانقسام في محاولة تقويضه؟. ومع ذلك فليس أمامنا من سبيل سوى محاصرة وعزل كل من يغذي الانقسام، لأنه في الواقع يغذي خطط نتنياهو ويساهم في مزيد من التضحية بالتضحيات غير المسبوقة من شعبنا في جميع أماكن تواجده، وخاصة في قطاع غزة .
مشاركة :