عندما يطالب مقتدى الصدر، وبأعلى صوته، وبإصرار متلاحق، على ضرورة الاستماع إلى «ظلامات» العرب السنّة في العراق، ثم عندما ينتفض الشعب العراقي ضد نظام «المحاصصة» الطائفية والحزبية، وحقيقة أنه لا فرق بين هاتين التسميتين ولا هذين المصطلحين، أفلا يعني هذا أن «المعادلة» التقاسمية التي فرضها المندوب السامي الأميركي بول بريمر على العراق وشعبه بقوة الاحتلال، ومعه الذين «تعملقوا» بوجود موازين القوى المستجدة التي ترتبت على هذا الاحتلال، قد ثبت فشلها الذريع، بعد ما يزيد على 13 عامًا من تجربة ظلامية رديئة وبائسة لم يبق يتمسك بها عمليًا وفعليًا إلا إيران والميليشيات التابعة لحراس الثورة الإيرانية وقادة اللحظة التاريخية المريضة الذين أثبتوا أن ولاءهم ليس لبلاد الرافدين، وإنما للولي الفقيه في طهران. وبالطبع فإن هكذا «معادلة» وهكذا تركيبة سياسية لا بد من أن تكون أول إنجازاتها، التي ثبت أنها كانت تآمرًا على العراق وشعبه الخلاق، هي «فرط» الدولة العراقية وتشتيت أجهزتها، وتدمير مؤسساتها، وحل الجيش العراقي الذي يبدو أن هذه العقوبة قد فُرضت عليه لأنه خاض الحرب، حرب الثمانية أعوام، مع إيران، ببطولة وإقدام، وأنه حال دون تحقيق ذلك الشعار الاستفزازي، الذي رفعه المصابون بداء الحقد التاريخي على ذي قار و«القادسية» وعلى الأمة العربية، المطالب بتجديد الاحتلال الصفوي لبلاد النهرين، و«تحرير»!! المراقد والمقامات الشيعية التي هي مراقد للعرب كلهم بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية؛ أكانوا سنّة أم شيعة. ما كان يجب حلّ الجيش العراقي وتشتيت ضباطه وجنوده لو أن المعادلة المتحكمة والحاكمة الجديدة ليست «معادلة» بريمر، التي كانت وما زالت معادلة إيرانية، فحجة أن هذا الجيش هو جيش النظام السابق حجة باطلة ومفتعلة وغير صحيحة؛ فهذا الجيش الذي حارب كل حروب فلسطين وكل حروب الأمة العربية، عندما خاض حرب الثمانية أعوام المظفرة فعلاً فإنه لم يخضها دفاعًا عن صدام حسين ولا دفاعًا عن نظامه ولا عن حزب البعث أيضًا، وإنما عن العراق العظيم وعروبته، وعن الأمن القومي العربي، وعن تماسك العراقيين ووحدتهم، والإثبات هو هذا الذي يجري الآن، حيث تفشت الأمراض المذهبية والعرقية والدينية على نحو غير مسبوق ولا في أي مرحلة من المراحل أو عهد من العهود السابقة. ثم، ولعل ما كان بمستوى جريمة حلّ الدولة العراقية، كدولة بكل مؤسساتها ورموزها وأجهزتها، وحل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية كلها هو قرار الاجتثاث العشوائي لحزب البعث، الذي بقي مستمرًا بالحكم منذ عام 1968، والذي كان مرّ بهذا الحكم، وإنْ لفترة محدودة وقصيرة في عام 1963، والمؤكد أن أصحاب هذا القرار يعرفون أن هذا الحزب قد خسر من قادته اللامعين في مسلسل الإعدامات ووجبات الاغتيال التي نفذها صدام حسين، ومن بينها «وجبة» إعدامات عام 1979، أكثر كثيرًا وبأضعاف مضاعفة مما فقدته كل قوى وأحزاب المعارضة من قادتها ورموزها في مثل هذه الوجبات على مدى كل هذه السنوات الطويلة. كان في الحزب تيارات سرية، من بينها مجموعة محمد عايش المعروفة، التي تم إعدام كل من تم اكتشافهم من رموزها، ومعهم عبد الخالق السامرائي، في وجبة عام 1979 الشهيرة والمعروفة، وكان في هذا الحزب مجموعات سرية أيضًا أقرب إلى ما كان يسمى «بعث سوريا» و«بعث جماعة صلاح جديد»، وكان في صفوفه إنْ على مستوى القواعد أو القيادة من كان ولاؤهم إلى أحمد حسن البكر، وحتى إلى حردان التكريتي الذي جرى اغتياله في الكويت، وهذا كان من المفترض أنْ يتطلب ألاّ يكون الاجتثاث شاملاً وعشوائيًا وألاَّ يتخذ طابع الانتقام دون تمييز، وذلك في حين أنه كان يجب استحضار تجربة أوروبا الشرقية، حيث تخلت الأحزاب الشيوعية عن أسمائها التقليدية وتخلت عن الماركسية - اللينينية وأصبحت أحزابًا ديمقراطية وبرامجية لا يزال بعضها في الحكم حتى الآن، ويحظى بشعبية كبيرة، خصوصًا في بلغاريا.. وإلى حدّ ما في المجر (هنغاريا). والآن، وهذا إذا صحت المعلومات التي تسربت على نطاق ضيق في الآونة الأخيرة وتحدثت عن اتصالات سرية بين جهات أميركية غير معروف إذا كانت رسمية أم لا، وقيادات بعثية سابقة غير ملطخة أيديها بالدماء في عهد صدام حسين ولا في أي عهد آخر، فإن هذا يعني أن رؤوس الأميركيين قد ارتطمت بجدران الحقيقة، وأنهم أدركوا أنه لا يمكن القضاء على «داعش» دون إعادة الاعتبار للعرب السنة، ودون استمالتهم وإبعادهم عن هذا التنظيم الإرهابي، وهذا يتطلب، كما بات يعرف هؤلاء الأميركيون، مدَّ خيوط اتصال مع بعض الرموز «البعثية» من الذين لم يشاركوا في الجرائم التي ارتكبت في المرحلة السابقة، مرحلة حكم صدام حسين، الذين يحظون بالتقدير والاحترام في أوساط الطائفة السنية التي شملها قانون «الاجتثاث» الآنف الذكر، التي لا تزال تطاردها «معادلة» بريمر التي اعتبرتها مجرد أقلية في العراق لا تتجاوز نسبتها، قياسيًا، بالمجموعات الأخرى، 15 في المائة، وبالطبع فإن هذا غير صحيح، وهو استهداف مقصود ربما دافعه الاستجابة للتوجهات والمخططات الإيرانية. وبصراحة، فإن استهداف العرب السنة وفقًا لمعادلة بول بريمر وتنفيذًا للمخططات المذهبية الإيرانية قد دفع هؤلاء، إنْ لم يكن كلهم فأكثرهم، إلى طلب الحماية حتى من تنظيم داعش الإرهابي الذي لم يوفرهم هو أيضًا بدوره، والذي ارتكب جرائم بدائية بحقهم وحق أبنائهم ورموزهم، إنْ بعد احتلال الموصل والأنبار، وإنْ قبل ذلك وحتى الآن. وهكذا فقد ظهر العرب السنة وكأنهم يشكلون حاضنة لهذا التنظيم الإرهابي والبيئة التي التجأ إليها للسيطرة على العراق، والحقيقة أن إيران ومعها كثير من التنظيمات المذهبية الحاقدة هي التي دفعت هؤلاء دفعًا في اتجاه «داعش» لترويج كذبة أن الطائفة السنية منخرطة في الظاهرة الإرهابية، كانخراطها سابقًا في نظام صدام حسين، ولذلك فإنه لا بد من أن تبقى محاصرة ومطاردة ومطلوبة لقانون الاجتثاث، مثلها مثل حزب البعث. ولذلك ورغم أن المعلومات التي تتحدث عن أن هذه الاتصالات المشار إليها آنفًا بين الأميركيين و«البعث» أو بعض البعثيين الذين عُرفت أسماء بعضهم غير مؤكدة، فإن ما يجري في العراق الآن وما بقي يجري خلال نحو ثلاثة عشر عامًا من غير المستبعد أنه أقنع حتى بعض كبار المسؤولين في الأجهزة والدوائر المعنية الأميركية بضرورة الاستعانة ببعض قادة و«كادرات» هذا الحزب السابقين، من غير الملطخة أيديهم بالدماء التي نزفت في المرحلة الظلامية السابقة، والسماح لهم بعد إدماجهم في الحياة السياسية ببلورة تجربة، كتجربة بعض دول أوروبا الشرقية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وإنشاء حزب برامجي ديمقراطي من الممكن أن يكون الحاضنة الفعلية لإبعاد العرب السنة عن «داعش» وعن التنظيمات الإرهابية.
مشاركة :