يستعد اليهود في العالم للاحتفال بعيد الهاغادا، وهو يوم أنزل الرب التوراة على اليهود. ومن الطبيعي أن تجد الجماعة الدينية، أية جماعة دينية، في مثل هذه المناسبة فرصة للإشادة بالدين الذي تنتمي إليه، وأن تستغل هذه المناسبة لإعلاء شأنه بين الأديان، وإلى ترسيخ الاقتناع بمزاياه وبما قدمه للمؤمنين والمؤمنات بتعاليمه من راحة نفسية وارتقاء أخلاقي وعون إرشادي يساعدهم على تخطي مصاعب الحياة والنجاح في الحياة الدنيا. وسيراً على هذه العادات البشرية المألوفة، يسعى يهود متدينون إلى التشديد ليس على مزايا اليهودية فحسب، بل وحتى أيضاً على فرادة الدين اليهودي حيث إن كل معتقد ديني أو سياسي إنما هو استثنائي بمعنى من المعاني. وهذا الاعتقاد ليس غريباً على اتباع الأديان المختلفة، إذ كل واحد منهم يعتقد أن دينه هو الأفضل وإلا لما حرص على ممارسة الشعائر الدينية وعلى الأخذ بتعاليمها في سلوكه الشخصي. ومن الممارسات الدينية الشائعة والتي تشكل جزءاً من التراث الديني العام هي أن تسعى المراجع الدينية إلى الإفادة من المناسبات التاريخية ليس فقط لتعميق إيمان اتباع الأديان المختلفة بتعاليم دينهم فحسب، بل أن تتوجه إلى اتباع الأديان الأخرى بخطاب ديني يرمي إلى التأثير في مسار العلاقات بين الدين الذي ينتمون إليه والأديان الأخرى. وتتجه هذه المساعي عادة في طريقين مختلفين: الأول، هو طريق المراجع الدينية وغير الدينية التي تؤمن بقيمة التفاعل والتعاضد بين الأديان المختلفة، وتسعى إلى تحويل احتفالاتها الدينية إلى مناسبة لترسيخ العلاقات بين الدين الذي تنتمي إليه، من جهة، والأديان الأخرى، من جهة أخرى. في هذا السياق يجري التشديد مثلاً على تنوع الأديان وتعدد الطرق التي تسير عليها من أجل خدمة الإنسان وإعلاء شأنه وتخليصه مما يحرمه السعادة وراحة النفس، وعلى الأهداف المشتركة التي ترمي إلى تحقيقها، وعلى المجالات التي يمكن اللجوء إليها من أجل تحقيق هذه الأهداف. وفي غمار الدعوة إلى احترام أديان الآخرين والتعبير عن مشاعر التقدير لهؤلاء والحض على التضامن معهم ومد يد التآخي معهم، تبذل هذه المراجع جهداً استثنائياً لا ينقطع في إقناع أتباعها بقيمة اتباع الأديان والمعتقدات الأخرى وتسليط الأنظار على مساهماتهم في تقدم البشرية وعلى الفضائل الأخلاقية التي يتمسكون بها ويعبرون عنها. الثاني، هو طريق المراجع الدينية أو السياسية التي تسلك طريق التعصب فتتجه إلى مخاطبة اتباع الدين الذي تنتمي إليه بالدرجة الأولى بل وأحياناً بصورة حصرية. في هذا السياق، تشدد هذه المراجع على المقارنة بين الدين الذي تنتمي إليه وتبشر به، والأديان الأخرى. فدينها هو أفضل الأديان قاطبة وهو منبع الفضائل والخير والعدل، أما الأديان الأخرى فإنها، تمثل النقيض لهذا الدين وهي مصدر للشرور ولعذاب الآخرين وآلامهم المستمرة عبر الأجيال. وتتحول عند هذا النمط من المراجع الدينية والسياسية الاحتفالات التاريخية إلى مناسبة لحض اتباع هذه الأديان والمعتقدات على التربص بالأديان الأخرى، وتسليط الأضواء على عدائها وكرهها للآخرين. ويجد المرء النوعين من المراجع لدى سائر الجماعات الدينية وغير الدينية، ففي هذه الجماعات من يعمل ويدعو إلى التسامح، وفيها من يحرض على التطرف ومعاداة الآخرين. ولعل الأشد ضرراً هنا هو يوم تلجأ جماعات سياسية إلى استخدام العامل الديني في رسالة التحريض والكراهية. وبين هذه الجماعات تقف الصهيونية بوضوح إلى جانب تحويل المعتقد الديني إلى أداة للتحريض على الكراهية بين الأديان. وفي هذا السياق تبدو معركة الصهيونية ضد اليهود المتنورين الذين يدعون إلى المساواة الحقيقية بين البشر، والذين يعملون من أجل التآخي بين المجتمعات الإنسانية، هي المعركة الرئيسية التي خاضتها الصهيونية وأن هؤلاء كانوا أعداءها الرئيسيين قبل أن تتفرغ لمحاربة العرب والفلسطينيين ولحرمانهم من حقوقهم الوطنية والإنسانية. وحتى تضمن الصهيونية الانتصار في هذه المعارك فإنها دأبت على خلق حالة حصار بين اليهود واتجهت إلى إقناع اليهود بأن العالم بأسره يتربص بهم ويعمل على حرمانهم من الحقوق وعلى الانتقام منهم لأنهم يتفوقون على الآخرين. ولعل ما جاء في افتتاحية صحيفة جيروزاليم بوست القريبة من الائتلاف الإسرائيلي الحاكم بمناسبة اقتراب عيد الهاغادا ما يعبر عن هذا النهج إذ قالت إن الجميع يكره اليهود، ... فالبعض يكره اليهود لأنهم صلبوا المسيح. العنصريون يكرهونهم لأنهم يلوثون الفضاء العرقي النقي. الاشتراكيون يكرهونهم لأنهم رأسماليون يريدون السيطرة على العالم. القوميون يكرهون اليهود لأنهم شيوعيون يسعون إلى تقويض الدولة -القومية. اليوم الأوربيون يكرهون اليهود لأنهم انقلبوا إلى قوميين بعد أن أنشأوا دولة إسرائيل وبالتالي فإنهم يقفون مع أولئك الذين يحاربون الاتحاد الأوروبي العابر للقوميات. مفكرو التنوير كرهوا اليهود لأنهم حولوا الثقافة الغربية إلى دين، وكره القوميون والشيوعيون ومعارضو الرأسمالية اليهود بسبب نجاحهم الاقتصادي. والحقيقة أن ما جاء في البوست هو تزوير للموقف العالمي تجاه المسألة اليهودية. نعم إن العالم اليوم لا يكره اليهود ولا يريد شراً بهم، بل على العكس يريد حمايتهم. ألم يقل قادة الحلفاء في الأربعينات إن واحداً من أهم الأسباب لدخولهم الحرب العالمية الثانية كان السعي إلى إنقاذ اليهود من المحرقة. أما اليوم فإن العالم يريد إنقاذ اليهود وحمايتهم من أكبر الأخطار المحدقة بهم والذي يتمثل بالصهيونية التي تجر اليهود إلى المزيد من المصاعب حتى تبرر نظريتها العنصرية والعدوانية. raghidelsolh@yahoo.com
مشاركة :