إذا كان يمكن حصر المشهد السينمائي الروائي التركي للعام المنصرم بظاهرتين، فستكون إحداهما وفرة الأعمال الأولى لمخرجين ومخرجات أتراك، كما بدا جليّاً في الدورة الخامسة والثلاثين لمهرجان إسطنبول السينمائي (عُقِد من السابع وحتى السابع عشر من شهر نيسان/ أبريل). وهي المناسبة السينمائية السنوية التي تجمع معظم الأفلام الفنية التركية، حتى تلك التي تعرض في مهرجانات سينمائية تركية ودولية أخرى. فهذا العام زالت تقريباً الحدود بين تظاهرات ومسابقات السينما التركية في المهرجان، ولم تعد الأعمال الأولى تعرض فقط في تظاهرة «السينما التركية الجديدة»، بل أن معظم أفلام المسابقة الوطنية هي بواكير جديدة لمخرجين ومخرجات، فاقت فيها أعمال المخرجات تلك التي تخص زملائهن الرجال. كما أن عروض خارج المسابقة الرسمية ضمت أيضاً أفلاماً أولى لمخرجين أتراك، في ظاهرة يصفها المتفائلون بأنها عودة الحياة للسينما الفنيّة التركية، التي تعاني مثل غيرها من سينمات الشرق الأوسط من شحة مصادر الإنتاج وندرة منافذ عرض السينما المغايرة. حكايات خارج الأزمنة أما الظاهرة الأخرى، فتتعلق بالحكايات التي قدمها كثير من أفلام هذا العام، إذ اختار بعضها أن يقدم قصصاً معزولة عن الزمان أو المكان الواضحين، فيما عادت أفلام أخرى إلى الماضي. في كل ذلك حضرت الطبيعة القاسية والباهرة الجمال في الآن نفسه، كقوة غامضة، وبدت كشاهدة أزلية على وجع الشخصيات، وجسّدت تحدي الإنسان الأكبر، كما في فيلم «برد كالاندار» والذي فاز بجوائز عدة في المهرجان. واحتفى بعض المخرجين بطبيعة بلدهم الجغرافية، وشكلت هذه الأخيرة أحياناً مجازاً لانقضاء الزمن الإنساني وأفوله. كما يمكـــن قراءة هروب بعض الأفلام إلى «اللا زمان»، بأنه رغبة بتجنب تقليب تفاصيل الحاضر التركي، والذي تشهـــد حرياته مزيداً من التضييق والتغييـــرات الكبيرة التي تتطلب تأملاً ومسافة زمنية ونفسية مناسبة حتى يمكن هضمها وبالتالي مقاربتها. اختار المخرجان سونر كانر وباريش كايا قرية على الحدود التركية الأرمنية لتصوير فيلمهما الأول «رؤوف»، والذي يستعيد طفولة المخرج الكردي الأصل كانر. يعرف هذا الأخير مرابع صباه ويوجه عدسته السينمائية عليها ليبلغ حدوداً كبيرة من الشاعرية الحزينة الطافحة. ويشكل الفيلم الذي يحقق الإعجاب منذ عرضه الأول في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي، إضافة قيّمة لمنجز الأفلام الذاتية لمخرجين من حول العالم. يقدم الفيلم قصة الصبي «رؤوف» الذي يقترب من توديع عالم الطفولة. ليست هناك في الفيلم قصة بالمعنى المألوف، بل أقرب إلى تجميع لتجارب ذاتية حسيّة، بعضها شديد الجمال والتأثير، كالمشهد البليغ الدلالة للصبي وهي يقف أمام صف التوابيت الخشبية الفارغة في محل النجار الذي بدأ العمل فيه. هو اللقاء الأول للصبي مع الموت. الحب سيحل أيضاً على قلب البطل، عندما يقع في غرام ابنة معلمه النجار، لكنه حب لن يقود إلى شيء، فقط يفتح الأبواب على العالم الواسع وليترك ذكرى لا تنسى في حياته. لم يكتف المخرجان بالتصوير في المواقع الطبيعية، بل استعانا للأدوار الثانوية بأناس من القرية ذاتها. هناك في الفيلم المرأة المسّنة التي تجلس على كرسي في ساحة القرية وتراقب العالم من حولها. تشي مشاهد كثيرة بحنين جارف إلى طفولة تحاول السينما أن تعيد إحياءها. لا يعرف الصبي في الفيلم ماهية اللون الوردي، فيحاول عبر الفيلم أن يعثر على هذا اللون المبهج وسط صحراء الجليد الذي تغرق القرية فيه كل شتاء. هناك وجه قاس للحياة في القرية يستعيده الفيلم، وينتهي بشخصيته الرئيسية وهو يعرف معنى الفقد والحزن لأول مرة. الحياة في القفص كحال بطل فيلم «رؤوف» تواجه الشخصية الرئيسية لفيلم «القفص»، - أول أفلام المخرج أفوق البيرقدار والذي عرض خارج المسابقة -، الموت، عندما يمر الباص الذي كانت تركبه بجوار مقبرة، لكن الفارق مع الشخصية الأخرى، أن المرأة الريفية كانت في طريقها إلى عيادة خاصة لعلاج السل، وأن فرص النجاة لها ضئيلة للغاية. يبدأ الفيلم الذي لم يربط نفسه بزمن معين، بمقدمة مبشرة، ويقدم عائلة شابة تُمتحن بمرض الأمّ. لكنه يتحول تدريجياً إلى ميلودراما تختنق بالصور والعلاقات النمطية. كذلك عانى الفيلم من ضعف الموازنة، فجاءت مشاهد الماضي في المناطق المسكونة فقيرة في إمكانياتها، على عكس تلك التي اتخذت من الطبيعة الشاسعة الفارغة خلفية لها. تنتظر شخصيات الفيلم المطر الذي انقطع عن المنطقة، وسيهطل بعد حدث مأسوي غير متوقع، والذي يأتي في نهاية تعيد الفيلم إلى مساره النقدي لسلطة الرجل الشرقي والدولة المهيمنة على حد سواء. ومن ناحيته يأخذ فيلم «برد كالاندار» للمخرج مصطفى كارا، العلاقة مع الطبيعة إلى مديات غير مسبوقة في السينما التركية. بل أن هذه العلاقة ستكون الأهم في القصة التي تقدم حياة عائلة صغيرة تسكن على أطراف منطقة جبلية. يفهم الفيلم (جائزة أحسن مخرج ومصور ومنتج في مهرجان إسطنبول إضافة إلى جائزة الجمهور في الدورة الأخيرة لمهرجان طوكيو السينمائي) المنطقة الجبلية التي صور بها، ويستلهم قسوتها وفتنتها في مشاهد تبرز التضادات اللونية، ويعثر على مشهديات بدت مؤسلبة، لكنها جاءت نتيجة الجهود التي بحثت في تطرف الطبيعة في تلك المنطقة الخاصة وعلاقتها بالإنسان. والفيلم عن مكابدات عائلة مصطفى، الذي يهرب من فقر القرية إلى الجبل بحثاً عن موارد لعائلته الممتحنة بعوق أحد الأبناء. لكن القصة هي واسطة فقط للتمعن بسطوة المحيط القاسي. صور الفيلم معتمداً على الإنارة الطبيعية، فجاءت المشاهد الليلية معتمة لخلو القرية من الكهرباء، وانفتحت المشاهد النهارية على مشهديات باهرة. هناك دورة للحياة والألم ينقلها الفيلم، الأكثر سينمائية من بين جميع الأفلام التركية المعروضة هذا العام. تدريجياً يتقرب الفيلم من شخصياته وبعد أن قضى الشطر الأول منه وهو يراقبها من مسافة، ليصل معها في القسم الختامي إلى ذروات عاطفية، بخاصة مجموعة المشاهد التي كانت الأسرة فيها تبحث عن طفلها المعاق وسط الطبيعة الخالية، والتي بدت حينها أكثر رأفة بالطفل والعائلة. حبيسات الحياة سبقت سمعة باكورتي المخرجتين التركيتين: سينيم توزين وأهو أوزتورك، «الوطن الأُمّ» و «ملابس مغبرة» على التوالي، الدورة الأخيرة من المهرجان السينمائي الأكبر في بلدهما. فالفيلمان عرضا في مهرجانات سينمائية عريقة وحظيا بإشادة النقاد وبعض الجوائز (عدد «الحياة» 25 آذار - مارس 2016). حصل فيلم «ملابس مغبرة» على جائزة هذا العام لأفضل فيلم تركي، فيما خرج الفيلم الرائع «الوطن الأُمّ» من دون جائزة، وسط صدمة كل من شاهد هذا الفيلم في إسطنبول أو في المهرجانات الأوروبية التي عرضته. يقدم الفيلم الفائز قصة خادمتين تركيتين من أصول كردية تعملان في خدمة منازل الأغنياء في إسطنبول. ويركز على إحداهما التي هجرها زوجها للتو، والتي كان عليها أن تجد طريقها ورعاية ابنتها في المدينة الصعبة التي هاجرت إليها من قريتها الصغيرة. على رغم الروح التلفزيونية والتعاطي النمطي قليلاً للحكاية التي يقدمها فيلم «رقص الزفاف»، أول أفلام المخرجة التركية جيجدم سيزجين، إلا أن الفيلم نال نصيباً وافراً من النقاش، بسبب موضوعه والأسئلة التي يطلقها عن حريات المرأة في مجتمعات ما زالت تتعامل بحذر وتناقض مع نساء كسرن القيود الاجتماعية التقليدية. الفيلم عن سيدة تركية بلغت الأربعين، عاشت حياة عاطفية وجنسية متحررة، وعندما قابلت سائق تاكسي يصغرها بعشر سنوات ومن بيئة اجتماعية محافظة، يحدث الاصطدام المتوقع المعروف بين التقاليد والحريات. يشرك الفيلم جمهوره، وينقل معضلة الفيلم إلى الخارج، ويقسم مشاهديه بين الذين يتمنون السعادة للحبيبين، وبين الذين يحاسبون البطلة على ماضيها.
مشاركة :