«إن المارّ في تلك الصبيحة الضبابية من آذار (مارس) 1879، والذي يعبر بنفسه وبماله ساحة موبير، أو»لاموب»، مثلما يسميها الأشرار (...) سيجد نفسه في أحد تلك الأماكن القليلة التي نجت من تهديمات البارون هوسمان، وسط شبكة من الأزقة النتنة، يقسمها الى جزءين مجرى نهر البيافر (...). من ساحة موبير التي فتحها مثل جرح بوليفار سان جرمان، تنطلق شبكة عنكبوتية أخرى من النُهَج الصغيرة (...) تنتشر فيها نُزل قذرة يديرها عادة الأوفاريون المعروفون بجشعهم الاسطوري، يطلبون فرنكاً لليلة الواحدة وأربعين سنتيماً للموالية (وعشرين فلساً اضافية اذا اراد أحدهم لحافاً)». «يجب أن أذهب لأداء مهمتي في أبهى مظهر: ارتديت اللباس الرسمي الأسود واللحية اللذين كنت ألبسهما في سهريات صالون جولييت آدم. واكتشفت من طريق الصدفة في إحدى خزائني كمية صغيرة من الكوكايين من نوع «بارك ودايفس» التي موّنت بها الدكتور فرويد... من يدري كيف بقيت هناك. لم أجربها أبداً، ولكن إن كان على حق فهي ستعينني. وأضفت اليها ثلاثة أكواب من الكونياك. الآن أحسّ بنفسي ليثاً. سيطلب غافيالي المجيء معي، ولكني لن أسمح له بذلك. فهو سيعرقلني بتحركاته التي صارت بطيئة جداً. فهمت جيداً كيف تتم العملية. سأضع قنبلة يسجلها التاريخ». > لا ... لسنا هنا إزاء العبارات الأولى والأخيرة من رواية لرائد الروايات الفرنسية المسلسلة في القرن التاسع عشر أوجين سو، صاحب «اسرار باريس». ولا في المقطع الأول أمام اقتباس من نص «ممرات باريس» لوالتر بنجامين. بل أمام بداية ونهاية عمل أقرب كثيراً الينا: رواية «مقبرة براغ» للكاتب الراحل امبرتو ايكو – كما ترجمها في شكل مميز الى العربية التونسي أحمد الصمعي -. وكانت هذه سادس روايات هذا المفكر والناقد ومؤرخ الثقافة، الذي حين جرّب حظه في كتابة الرواية منذ «اسم الوردة» حقق نجاحات باهرة. ولكن كذلك ردود فعل، من كل الانواع، بدت دائماً أكثر ابهاراً. غير ان ما لا بد من قوله هنا هو أن القسط الأكبر من السجالات حول أدبه كان من نصيب «مقبرة براغ»، حتى وان كان لم يخرج فيها عن أساليبه ومواضيعه المعتادة: أسرار التاريخ وغوامضه، البناء على أساس أجواء واقعية للغوص في مواضيع تتخطى الواقع، إعطاء مكانة أولى للتاريخ الثقافي، والاشتغال على نظرية المؤامرة وما يتعلق بها من جمعيات سرية وطوائف غامضة ومناورات في الكواليس وما إلى ذلك. أما اذا كانت رواية «مقبرة براغ» قد نالت القسط الأكبر من السجال فما هذا إلا لأنها، من ناحية، تناولت موضوعاً شديد الحساسية، هو ما يسمى «العداء للسامية»، واشتغلت من ناحية أخرى، انطلاقاً من كتاب ملعون هو «بروتوكولات حكماء صهيون» الذي لم يعد أحد في حاجة الى البرهنة على انه كان نتاجاً لتركيبة استخباراتية قيصرية روسية، وقع في فخها ألمانيو هتلر مستفيدين منها، وكذلك آخرون من بينهم بعض عرب النصف الأول من القرن العشرين الذين ترجموه وصدقوه وبنو جزءاً من استراتيجيتهم السياسية والايديولوجية على أساسه. ولعل أغرب ما في الأمر ان لوبيات يهودية في اوروبا، هاجمت كتاب أمبرتو إيكو حين صدوره، وطالبت بمنعه مع انه يتبنى تماماً النظرة اليهودية التي تقول ان ليس للصهيونية علاقة بالكتاب، بل هو وضع أصلاً ضدها. فهل في الأمر سوء تفاهم، ام مجرد رغبة في عدم العودة الى هذا الكتاب البائس بأي شكل من الأشكال؟ > لا يمكن أحداً الاجابة القاطعة عن أي من هذين السؤالين. فقط لا بد من القول ان «الضجة السياسية والايديولوجية» من حول الكتاب سرعان ما هدأت، فكان امبرتو ايكو، قبل رحيله بسنوات قليلة، أول المستفيدين من ذلك اذ حقق لكتابه دعاية ضاعفت من إعداد نسخه التي كان متوقعاً بيعها. اما ما تبقى من الكتاب فهو بُعده الأدبي، الطريف والمصاغ على شكل مذكرات كتبها سيمون سيمونيني، الذي يقول لنا ايكو في الرواية انه اذا كان كتاب «البروتوكولات» مزوراً، فإن سيمونيني نفسه هو الذي قام بالتزوير، وبالتحديد انطلاقاً من اجتماع متخيّل يفترض انه عُقد في مقبرة براغ. غير ان المسائل ليست هنا على مثل تلك البساطة التي يمكننا بها ان نعزو «البروتوكولات» الى لعبة استخبارات بسيطة. وذلك لأن سيمونيني نفسه ليس شخصاً بسيطاً. وليس بالشخص المحايد الذي يقوم بمهمة في منتهى العادية. ومن هنا فإن رواية «مقبرة براغ»، بأكثر مما هي «كشف» عن المسار المفترض الذي اتخذه انتاج «البروتوكولات»، هي بالأحرى سرد لسنوات صاخبة وغريبة من حياة الراوي، بحيث سيبدو في نهاية الأمر ان «البروتوكولات» ليست سوى تفصيل صغير من تفاصيل تلك الحياة. > ذلك ان الكتاب بصفحاته التي تقرب من 500 صفحة في العربية كما في الأصل الايطالي، وعلى طريقة اوجين سو وغيره من كتاب الروايات المسلسلة في صحافة القرن التاسع عشر، ينقل لنا ما يكتبه سيمونيني عن حياته وتنقلاته بين أجهزة الاستخبارات البيامونتية (جمهورية في الشمال الايطالي) وجيوش غاريبالدي، ومعارك كومونة باريس وصولاً الى المشاركة في ألعب الكواليس التي دارت من حول قضية درايفوس، والمشاركة في مناورات جماعة الكاربوناري (الاشتراكية الغامضة التي يقال في اوساط الفكر النهضوي العربي ان عبدالرحمن الكواكبي كان، في سنوات الحلبية المبكرة، واقعاً تحت تأثير فرع حلبي لها، وان هذا الفرع كان هو من موّل رحلته الى مصر والى بعض مناطق الجزيرة العربية، لكن هذه حكاية أخرى بالتأكيد)... كل هذا عاشه وحدثنا عنه سيمون سيمونيني في المجال العام. أما في المجال الخاص فإنه خصص صفحات كثيرة ليحدثنا عن أنا/آخر له هو عبارة عن قسيس يشبهه ويبدو انه يتصرف باسمه او يزوره من دون ان يدري زيارات ليلية غامضة ويتنكر في ثيابه – او لعله هو يتنكر في ثياب القسيس، لن نعرف بالضبط -. غير ان الخاص هنا لا ينفصل ابداً عن العام... الى درجة ان كل شيء سيبدو في نهاية الأمر وكأنه نسخة مزورة عن واقع ما. ولا ننسينّ هنا ان مهنة سيمون سيمونيني الاساسية والتي تفرد في البراعة فيها، انما هي تزوير الوثائق، ما يعيدنا بالتأكيد الى ذلك الاجتماع «الشهير» في مقبرة براغ، حيث «اتُّخذ القرار» بوضع البروتوكولات التي شغلت العالم جاعلة إياه يسند كل مؤامرة الى اليهود: من نشر الأوبئة الى التسبب في اندلاع الحروب الى السيطرة على الأسواق المالية والارتقاء الى كل مراتب السلطة والمساعدة على الارتقاء اليها. غير ان السؤال الذي لم يُسأل هنا، هو ما اذا كان من وضع تلك «البروتوكولات» المشؤومة، مزورة بذلك الشكل، كان يستهدف في الأصل انكشافها كمؤامرة مزيفة... في مثل تلك الحال من سيكون المستفيد؟ > على أية حال، كان للهجوم الذي تعرضت له الرواية عندما صدرت طبعتها الأولى في العام 2010، أثره الايجابي في الرواية، حيث ان شهرين كانا كافيين لبيع 550 ألف نسخة منها، في الأصل الايطالي وحده، بينما لم ينقض العام إلا وكانت قد بيعت 650 ألف نسخة أخرى، هذا من دون ان نحسب مئات ألوف النسخ التي بيعت من ترجمات الرواية الى العديد من اللغات. ومع هذا سيصرح كثر من القراء ان الرواية بدت لهم أكثر غموضاً حتى من روايات ايكو السابقة ومنها «اسم الوردة» و «بندول فوكو» و «جزيرة اليوم السابق» – ولننتهز هذه الفرصة هنا للإشارة الى اننا بعدما تساءلنا في مقال سابق خصصناه لرواية «بندول فوكو» عما اذا كانت ترجمت الى العربية أفادنا صديق للزاوية من مصر، انها ترجمت بالفعل وصدرت عن المركز القومي للترجمة. > مهما يكن، سوف تكون «مقبرة براغ» الرواية قبل الأخيرة لايكو، الذي ولد العام 1932، ومات قبل شهور قليلة من الآن، ويكون قد اصدر طوال حياته سبع روايات، اضافة الى عشرات النصوص الفكرية والفلسفية والأدبية وفي مضمار اللسانيات وتاريخ الجماليات وما إلى ذلك.
مشاركة :