هل يغذي رجل الأعمال المثير للجدل نيران السياسة اليمينية المتطرفة، أم أنه مجرد «رجل غاضب يصرخ في وجه العاصفة»؟ في ربيع عام 2022، أعلن إيلون ماسك نيته الاستحواذ على «تويتر»، وفي تغريدةٍ لاحقة، كشف عن رؤيته للمنصة: «أن تنال ثقة الجمهور، عبر ضرورة أن تكون محايدة سياسياً». وأضاف بتحدٍ واضح: «هذا يعني إغضاب كل من اليمين المتطرف واليسار المتطرف على حدٍ سواء». لكن اليمين زعم مراراً أن منصة تويتر عبارة عن بوق تقدمي، فهي تشهد سيطرة من الليبراليين من الساحل الغربي ممن يمارسون التعتيم على الآراء أو الأخبار التي لا تروق لهم. وبعد مرور عامين فقط، انقلب هذا الاعتقاد رأساً على عقب، حيث تواجه منصة «إكس» الآن اتهامات بأنها باتت أداة لعرض الآراء السياسية لمالكها، والذي انحرف بشدة نحو معسكر اليمين، لا يكف عن التنفيس بقوة عن غضبه حيال الشؤون المحلية والعالمية. وخلال الأسابيع القليلة الماضية، أثار ماسك غضب الشرطة والسياسيين في المملكة المتحدة، بعدما وصف أحداث الشغب من اليمين المتطرف في بريطانيا بأنها «حرب أهلية»، وشن هجمات تحريضية على رئيس الوزراء السير كير ستارمر لمحاولته قمعها، بل شارك في نشر أكاذيب جماعة «بريطانيا أولاً» المنادية بسيادة البيض. كذلك في أوروبا، هدد المفوض الأوروبي تييري بريتون، بتطبيق كامل للعقوبات بموجب القانون الأوروبي حال فشل ماسك في كبح جماح «المحتوى غير القانوني». وفي الولايات المتحدة، قدم ماسك دعمه الكامل لحملة دونالد ترامب الرئاسية واستضاف مقابلة لمدة ساعتين مع المرشح الجمهوري، كما قدم نفسه كمستشار محتمل لترامب في البيت الأبيض. وبالنسبة لمؤيديه المتحمسين، يُنظر إلى ماسك على أنه ناطق بالحقيقة ولديه الرغبة والجرأة للدفاع عن حرية التعبير، بغض النظر عن عدم شعبية الأمر. وعلى الجانب الآخر، يرى منتقدوه أن تصريحاته تكشف، على نحو غير مسبوق، المخاطر المترتبة على وجود محرض سياسي، على رأس إحدى أكبر منصات التواصل الاجتماعي ومصادر الأخبار في العالم. ويقول إيلي باريزر، المدير المشارك لمؤسسة نيو بابليك، وهي منظمة غير ربحية مكرسة لتطوير مساحات عامة رقمية آمنة، «المفارقة هنا هي أن أعظم مخاوف المحافظين على مدى سنوات من أن يتصرف المالك بانحياز سياسي قد تحققت، لكن لصالح اليمين.. ولهذا السبب ينبغي ألا تكون ساحة المدينة العالمية ملكاً لشركة من وادي السيليكون». وتسلط تحريضات ماسك الأخيرة الضوء على رحلة تحوله من مبتكر مشهور إلى أيدلوجي مثير للخلاف. ورغم كل إنجازاته في مجالات الطاقة المتجددة والنقل والفضاء، إلا أنه يُنظر إليه الآن أنه «متصيّد» بقدر ما هو مبتكر رائد. لكن رغم كل هذه الضجة، هل يستطيع ماسك فعلياً التأثير في الانتخابات وتشكيل تهديد على الاستقرار العالمي، أم أنه يركب موجة الأحداث فقط لجذب الانتباه والنقرات؟ فوفقاً للمستثمر والناشط روجر ماكنامي، فإن ماسك «قد يكون مجرد رجل غاضب يصرخ في وجه العاصفة». وبصفته مالكاً لمنصة إكس، يدعي ماسك أنه يحمي رؤية حرية التعبير المطلقة واستئصال التحيزات التي كانت سائدة في ظل الإدارة الليبرالية السابقة، لكن منذ استحواذه على المنصة مقابل 44 مليار دولار، فقد خفف من السياسات، ما سمح بعودة الحسابات المغلقة سابقاً، وشمل ذلك حساب ترامب وحسابات شخصيات يمينية متطرفة، وأخرى للمتشددين البيض مثل أليكس جونز وتومي روبنسون. كما قدم ميزات تعديل طوعية للمساعدة على التحقق من الحقائق، بدلاً من إزالة المنشورات غير الدقيقة أو المسيئة. وخلال العام الجاري، أصبح ماسك أكثر انخراطاً في الأحداث السياسية. وبعد فترة وجيزة من محاولة اغتيال ترامب، أيد ماسك علناً الرئيس السابق لأول مرة، مشيراً إلى تقديمه مساهمات للجنة العمل السياسي المؤيدة لترامب منذ ذلك الحين. وبعدما زعم الجمهوريون لسنوات أن منصات التواصل الاجتماعي عموماً متحيزة ضد الأصوات المحافظة، فإن الديمقراطيين الآن هم من يرددون هذه الشكاوى. ومؤخراً، طالب جيري نادلر، عضو الكونغرس من نيويورك، بإجراء تحقيق في تقارير تفيد بحظر مستخدمي «إكس» من متابعة كامالا هاريس بعدما أصبحت مرشحة للرئاسة. وزعم حساب معروف على منصة إكس يدعم كامالا هاريس، يدعي وايت دودز فور هاريس، أنه تم تصنيفه أنه غير مرغوب فيه بعد اتهامات كاذبة بالتلاعب بالمنصة. بالإضافة إلى ذلك، تم إغلاق حساب آخر يُدعى بروغريسيفز فور هاريس مؤقتاً في وقت سابق من هذا الشهر. ويحذر الخبراء من صعوبة تحديد ما إذا كانت المشكلات ناجمة عن خلل فني أو أخطاء في التقييم، أم محاولات متعمدة لقمع حرية التعبير، خاصة بعد قيام ماسك بطرد العديد من موظفي قسم الاتصالات والسياسات في الشركة. ووفقاً لباريزر من نيو بابليك، كانت إحدى خطوات ماسك الأولى هي إزالة وإلغاء أي هياكل كانت موجودة لتوفير بعض الشفافية، في ما يتعلق بكيفية اتخاذ المنصة لقراراتها وتوجيهات المجتمع وكيفية تنفيذها.. وهذا لم يتح له اتخاذ المزيد من القرارات الارتجالية المتسرعة فحسب، بل أدى إلى انعدام الشفافية. وسواء تلاعب ماسك بعمليات المنصة سراً للترويج لأجندة سياسية أم لا، فإن تأثير منشوراته على «إكس» يبقى المسألة الأهم، خاصة أنه الحساب الأكثر شعبية على المنصة مع ما يقرب من 195 مليون متابع. وسبق أن أصدر ماسك تعليمات إلى المهندسين بالتلاعب بخوارزمية «إكس» لتعزيز بروز منشوراته، وذلك وفقاً لتقارير إعلامية أقر بها ضمناً في أحد منشوراته. وفي إشارة إلى نفوذه، كشف تحليل أجرته صحيفة فاينانشال تايمز أن تفاعلات ماسك الأخيرة مع حسابات اليمين المتطرف والوسوم قد وسعت نطاق وصولها بشكل ملحوظ، حتى بين المستخدمين الذين لا يتعرضون عادةً لمثل هذا المحتوى. وقبيل انتخابات نوفمبر في الولايات المتحدة، يحذّر بعض الخبراء من أن ميول ماسك لمشاركة ما يصفونه بأنه معلومات مضللة عن الانتخابات لا أساس لها من الصحة أو نظريات المؤامرة تحديداً قد تضر العملية الديمقراطية. وأفاد مركز مكافحة الكراهية الرقمية بأن مزاعم ماسك حول الانتخابات، التي وصفها المركز بأنها مضللة، مثل المزاعم باستيراد الديمقراطيين للناخبين ومقطع فيديو مفبرك باستخدام الذكاء الاصطناعي لكامالا هاريس، قد وصلت إلى 1.2 مليار مشاهدة على منصة إكس، دون التحقق من الحقائق أو ملاحظات المجتمع. وخلال الشهر الجاري، كتب خمسة أمناء في ولايات أمريكية رسالة مفتوحة إلى ماسك، يشكون فيها من انتشار معلومات مضللة تتعلق بالانتخابات التي تظهر في جروك، روبوت الدردشة الذكي على إكس. وتعتقد كاتي هارباث، مسؤولة الشؤون العالمية لدى شركة دوكو إكسبرتس، والتي عملت سابقاً كخبير استراتيجي في التواصل الرقمي لدى اللجنة القومية لأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين، أنه من غير المرجح أن يدفع ماسك الناخبين لتغيير انتماءاتهم الحزبية في الولايات المتحدة. لكنها ترى أنه قد يؤثر على نسبة المشاركة في التصويت حال الإسهاب في نشر المعلومات المضللة حيال العنف في مراكز الاقتراع على سبيل المثال. وقد يكون من الصعب تحديد مدى امتداد تأثير الخطاب عبر الإنترنت إلى العالم الحقيقي. ومع ذلك، يبدو أن انخراط ماسك في النقاش قد أثار جماعات محلية محددة في بعض البلدان. ففي البرازيل، على سبيل المثال حذّر ليوناردو ميرا ريس، المحلل لدى أوراسيا غروب في برازيليا، من أن تصريحات ماسك على منصة إكس لها عواقب ملموسة في بلد تضربه الانقسامات العميقة مثل البرازيل، مضيفاً إنه ليس مسؤولاً عن الاستقطاب السياسي في البرازيل، لكن أفعاله تجعل الأمر أشد وضوحاً. في غضون ذلك، وجد باحثون في معهد أبحاث عدوى الشبكات الاجتماعية بجامعة روتجرز بنيوجيرسي أن الجماعات المتطرفة رأت في استحواذ ماسك على «إكس» فرصة للعودة إلى المنصة بأعداد غفيرة. وأشار أحد تقارير المعهد إلى أن هاشتاجات «إكس» في أيرلندا استخدمت لتعبئة مسيرات مناهضة للهجرة، قبل أشهر قليلة من اندلاع الاضطرابات العامة وأعمال الشغب في المملكة المتحدة. ويشير المحللون والشرطة في المملكة المتحدة إلى أن أعمال الشغب الأخيرة غذتها «إكس» ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى، ويُنظر إلى ماسك باعتباره من يُشعل جذوتها. وثمة مخاوف من أن الآتي أكبر. وكتب بروس دايزلي، المدير السابق لعمليات تويتر في أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا، في مقال رأي، أن الطريقة التي تتصدر بها وسائل التواصل الاجتماعي عناوين الأخبار حالياً ليست بالأمر الجديد، لكنها تعكس مواقف سابقة لشخص نرجسي فظ ينشر بلا هوادة على منصة استحوذ عليها. ونعرف جيداً كيف انتهت الأمور في السابق، فقد أدت منشورات دونالد ترامب الغاضبة بعد هزيمته الانتخابية إلى هجوم الكابيتول في 6 يناير 2021. في المقابل، يجادل بعض الخبراء بأن ثمّة حدوداً لنفوذ ماسك. فقد تراجع تأثير «إكس» الثقافي في ظل إدارة مالكها الجديد، ولا تزال المنصة أصغر بكثير من منافستها المهيمنة «ميتا». وتُظهر بيانات «إي ماركتر» أن «إكس» لديها 359 مليون مستخدم، مقابل أكثر من ملياري مستخدم على فيسبوك التابعة لـ«ميتا». ويشير آخرون إلى أن العديد من الليبراليين ينتقلون إلى بدائل مثل تطبيق ثريدز من «ميتا» المستنسخ من «تويتر»، تاركين ماسك يحاول إقناع المقتنعين بالفعل. ويقول أنوبام تشاندر، أستاذ القانون في جامعة جورج تاون، إنه «لحسن الحظ، لم نصل بعد إلى المرحلة التي يعتبر «إكس» فيها المصدر لحصول الأغلبية على الأخبار، ورغم قدرته على قيادة الحوار إلا أنه ليس صاحب القول الفصل». وتبقى المحاولات الرامية لكبح جماع ماسك ومنصة «إكس» مشتتة. ففي الاتحاد الأوروبي، يستند القادة إلى قانون الخدمات الرقمية الذي يفرض مسؤوليات على منصات التواصل الاجتماعي لمراقبة خطاب الكراهية والمعلومات المضللة. وبموجب اللوائح الجديدة، حال رفضت المنصة وقف الأنشطة التي قد «تسبب أضراراً جسيمة»، يمكن للمفوضية الأوروبية أن تأمر مقدمي خدمات الاتصالات في الدولة العضو، التي تتخذها الشركة مقراً، بحظر الدخول إلى الموقع. وفي الولايات المتحدة، ثمة آليات محدودة لمنع ماسك من استغلال منصته للترويج لأجندة سياسية أو نشر معلومات مضللة. ولطالما كان لدى وسائل الإعلام التقليدية لوائح محددة للحفاظ على الاستقلال التحريري، لكن المنصات التقنية لا تخضع لهذه المبادئ، ولا تتمتع بالحماية بموجب التعديل الدستوري الأول فحسب، بل إن المادة 230 من قانون الاتصالات تعفيها من المساءلة عن المحتوى الذي تستضيفه. وترى إميلي بيل، الأستاذة بكلية الصحافة بجامعة كولومبيا، أن حرية ماسك في التصرف كقطب إعلامي متشدد هي نتيجة لنفور وادي السيليكون المستمر من تنظيم الإنترنت، ما أدى إلى فجوة في الرقابة التنظيمية. وتشير إلى أنه مع تصرفات إيلون ماسك، نشهد تداعيات عالم مبني على حجة قانونية مفادها أن منصات التواصل الاجتماعي قادرة على تنظيم نفسها. وقد جاء ماسك حاملاً معه مبالغ طائلة مستنداً إلى هيكل متداعٍ، ما يمهد الطريق لانهياره، ويعكس ذلك فشلاً منهجياً متعمداً، وجميع المنصات متواطئة في ذلك. تابعوا البيان الاقتصادي عبر غوغل نيوز كلمات دالة: FT Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :