«نحن في ريعان شبابنا. نحن في الثانية والعشرين من عمرنا. لدينا الكثير من الوقت»، هكذا كانت تتحدث بيقين لا يخالطه الشك، مارينا كيجان الطالبة اللامعة التي كانت كتاباتها الأولى تبشر بميلاد كاتبة مميزة، وذلك في مقالتها الأخيرة التي نشرتها في الصحيفة الصادرة عن الجامعة التي احتضنتها ولاقت رواجًا كبيرًا جدًا، والسبب الرئيسي وراء ذلك هو أنها رحلت عن عالمنا بعد ذلك بخمسة أيام في حادث سير مؤسف. لم يمهل القدر تلك الفتاة اليافعة الضاجة بالحياة التي تخرجت في جامعة ييل، إحدى أعرق الجامعات الأمريكية عام 2012م، وكان من المفترض أن تُعرض لها مسرحية من تأليفها في أحد المهرجانات العالمية في نيويورك، وكانت بانتظارها وظيفة في مجلة «النيويوركر» العريقة. المقالة حملت عنوان (عكس الوحدة) وهو نفس العنوان الذي تم اختياره ليزين غلاف الكتاب الذي ضم مجموعة من كتاباتها في المقالة والقصة، ونشر بعد عامين من رحيلها. يقول الناقد الأمريكي الكبير هارولد بلوم، وهو أحد أساتذتها في الجامعة، على الغلاف الخارجي للكتاب: «لن أكف أبدًا عن الشعور بالأسى لفقدان طالبتي الحبيبة السابقة مارينا كيجان. هذا الكتاب يحمل دليلاً جزئيًا للموهبة الاستثنائية الواعدة التي رحلت مع رحيلها». فيما يلي نقدم ترجمة للجزء الأكبر من المقالة: ليس لدينا كلمة تدل على عكس الوحدة، ولكن لو كان هناك وجود لمثل تلك الكلمة، فأستطيع القول إن ذلك هو ما أريده في هذه الحياة. ما أحس بالامتنان والعرفان لعثوري عليه في (ييل)، وما أخشى خسرانه حين نستيقظ غدًا ونغادر هذا المكان. إنه ليس الحب على وجه الدقة وليس الحي السكني على وجه الدقة أيضًا؛ إنه محض الإحساس بوجود الناس، الكثير من الناس، الذين تجمع بينهم آصرة واحدة. الذين هم جزء من فريقك. حين يدفع الحساب وتبقى جالسًا على الطاولة. حين تكون الساعة الرابعة فجرًا دون أن يأوي أحد إلى فراشه. تلك الليلة مع الجيتار. تلك الليلة التي لا نتذكرها. تلك الليلة التي نذكرها، حين ذهبنا، ورأينا، وضحكنا، وأحسسنا القبعات. (ييل) مليئة بالدوائر التي نرسمها حول أنفسنا. مجموعات الكابيلا، والفرق الرياضية، والمنازل، والجمعيات، والأندية. هذه الجماعات الصغيرة التي نحس من خلالها أننا محبوبون وآمنون وجزء من شيء ما حتى في أكثر ليالينا وحدة حين نتعثر في طريقنا إلى البيت إلى حواسيبنا دون رفقة، متعبين، وفي كامل يقظتنا. لن نحظى بهذه الأشياء العام القادم. لن نقطن في نفس الحي مع كل أصدقائنا. لن تكون لدينا حفنة من النصوص الجماعية. هذا الأمر يخيفني. أكثر من العثور على الوظيفة المناسبة أو المدينة المناسبة أو شريك الحياة المناسب –أخشى من فقد هذه الشبكة التي نحن فيها. هذا النقيض المراوغ الذي لا يمكن تعريفه للوحدة. هذا الشعور الذي ينتابني الآن. ولكن لنوضح أمرًا واحدًا: السنوات الأحلى من حياتنا ليست وراءنا. إنها جزء منا وهي منذورة للتكرار إذ نكبر ونمضي إلى نيويورك وبعيدًا عن نيويورك ونتمنى لو أننا عشنا أو لم نعش في نيويورك. أخطط لأن أقيم حفلات حين أبلغ الثلاثين. أخطط لأن أحظى بالمرح حين أكبر في السن. أي مفهوم لأحلى سنوات العمر يأتي من كليشيهات «كان ينبغي...» «لو أنني...» «تمنيت لو أنني...» بالطبع هناك أشياء نتمنى لو أننا قمنا بها: قراءاتنا، ذلك الفتى في أقصى القاعة. نحن أكثر النقاد قسوة على أنفسنا ومن السهل أن نخذل أنفسنا. النوم متأخرين. التسويف. تجاهل الأنظمة. لأكثر من مرة عدت بذاكرتي إلى ذاتي حين كنت في المرحلة الثانوية وتساءلت: كيف فعلت ذلك؟ كيف بذلت كل ذلك الجهد؟ إن مشاعرنا الخاصة بعدم الأمان تتبعنا وستظل تتبعنا. ولكن حقيقة الأمر هي أننا جميعًا كذلك. لا أحد يستيقظ من النوم حين يريد. لم ينجز أحد كل ما يريد قراءاته (ربما باستثناء المجانين الذين يفوزون بالجوائز...) لدينا هذه المعايير المستحيلة وعلى الأرجح أننا لن نحقق ما نرسمه في خيالاتنا المولعة بالكمال لذواتنا في المستقبل. ولكنني أحس أنه لا بأس بذلك. نحن في ريعان شبابنا. نحن في الثانية والعشرين من عمرنا. لدينا الكثير من الوقت. هنالك هذا الشعور الذي أحس به أحيانًا، يتسلل في وعينا الجمعي إذ نضطجع وحدنا عقب حفلة ما، أو حين نحزم كتبنا حين نستسلم ونغادر –إن الوقت أضحى متأخرًا جدًا بطريقة ما. إن الآخرين متقدمون علينا. أكثر تفوقًا، وأكثر تخصصًا. في طريقهم بطريقة ما لإنقاذ العالم، يبدعون أو يخترعون أو يطورون بطريقة ما. إن الوقت متأخر جدًا الآن لنبدأ بداية ما وأن علينا أن نقنع بالمواصلة. حين جئنا إلى ييل، كان يوجد هذا الشعور بالإمكانية. هذه الطاقة الكامنة الهائلة التي يصعب تعريفها– ومن السهل أن تشعر بأنها ضاعت منا. لم يكن علينا أن نختار وفجأة صار لزامًا علينا أن نختار. البعض منا ركزوا جهودهم على شيء ما. بعضنا يعلم تمامًا ما يريدونه وهم في سبيلهم للوصول إليه؛ فهم قد التحقوا بالفعل بكلية الطب، أو يعملون في إحدى الشركات غير الحكومية، ويقومون بإعداد الأبحاث. لكم أقول هنيئًا لكم وتبًا لكم معًا. بالنسبة لأغلبنا نحن تائهون في بحر الآداب هذا. لسنا واثقين من الطريق التي نسلكها وما إذا كان يتوجب علينا أن نسلكها منذ البدء. لو أنني تخصصت في الأحياء...لو أنني انطلقت من الصحافة في بداية دراستي الجامعية... لو أنني فكرت في أن ألتحق بهذا التخصص أو ذاك... ما يتوجب علينا تذكره أننا ما زلنا نستطيع القيام بأي شيء. نستطيع تغيير آرائنا. نستطيع البدء من جديد. أكمل دراستك ما بعد الجامعية أو حاول الكتابة للمرة الأولى. الفكرة التي فحواها أنه قد فات الأوان للقيام بأي شيء مثيرة للسخرية. إنها فكرة سخيفة. نحن على وشك التخرج في الجامعة. نحن في ريعان شبابنا. لا نستطيع، ويجب ألا نُضيع فكرة أن كل شيء ممكن لأنها في نهاية المطاف هي كل ما نملك.
مشاركة :