يصر المجلس الرئاسي على قراره بحل مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي، رغم الاعتراضات الواسعة على ذلك، والتي انضمت إليها الأمم المتحدة. وأرسل المجلس الثلاثاء، اللجنة المكلفة من قبله بتسلم المصرف، إلى مقره في طرابلس، حيث عقدت اجتماعا مع المحافظ الصديق الكبير ونائبه وعدد من المدراء. وقد أكد الكبير للجنة أن المجلس الرئاسي لا يملك صلاحيات في التغييرات التي أعلن عنها، لينفض الاجتماع. وكانت القائمة بأعمال رئيس البعثة الأممية لدى ليبيا ستيفاني خوري أكدت على دعم الأمم المتحدة الكامل لمصرف ليبيا المركزي في استمرار قيامه بدوره في الحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي والحفاظ على مقدرات البلاد. ورحبت خوري خلال اتصال هاتفي مع محافظ المصرف الصديق الكبير، بدعم مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، للمصرف ورفضهما الإجراءات المتخذة من قبل المجلس الرئاسي والخارجة عن اختصاصاته. وكان المجلس الرئاسي الليبي خرج فجأة ليعلن أمام الرأي العام الوطني والدولي تمسكه بتنفيذ القرار الصادر عن مجلس النواب منذ ست سنوات، والمتعلق بعزل محافظ المصرف الصديق الكبير. ستيفاني خوري: ضرورة اتخاذ خطوات لاستعادة الثقة في المصرف المركزي ستيفاني خوري: ضرورة اتخاذ خطوات لاستعادة الثقة في المصرف المركزي القرار الصادر عن المجلس الرئاسي بتاريخ 12 أغسطس الجاري ينص على تعيين محمد الشكري محافظا لمصرف ليبيا المركزي، وهو ما سبق أن أقرّه مجلس النواب في يناير 2018، وتم رفضه من القوى الفاعلة داخليا وخارجيا، سواء عبر التشكيك في شرعية البرلمان، أو من خلال فرض سلطة الأمر الواقع بما يخدم مصالح أطراف تدافع بقوة عن الصديق الكبير الذي كان قد تولى منصب المحافظ منذ 12 أكتوبر 2011. وفي يناير 2014 كان مجلس النواب المنعقد في طبرق قد أصدر القرار رقم 17 بتعيين علي سالم حبري نائب المحافظ بالقيام بأعمال ومهام واختصاصات محافظ مصرف ليبيا المركزي إلى حين اختيار محافظ جديد. منذ ذلك التاريخ انقسم المصرف المركزي الليبي إلى مؤسستين، الأولى في العاصمة طرابلس برئاسة الكبير وتحظى باعتراف دولي، والثانية في شرق البلاد برئاسة علي الحبري نائب المحافظ، قبل إقالته من مجلس النواب في ديسمبر 2022 بسبب خلاف على تمويل ميزانية حكومة فتحي باشاغا آنذاك، واختيار مرعي مفتاح رحيل بديلا له. وفي أغسطس 2023 أعلن رسميا عن إعادة توحيد فرعي المصرف في غرب ليبيا وشرقها، بعد انقسام استمر لنحو عقد. وبحسب القانون الليبي، من المفترض أن تنتهي مدة ولاية مجلس إدارة المصرف في العام 2016، إلا أنه رفض تسليم مهامه. ونجح الكبير في فرض سلطة الأمر الواقع من خلال علاقاته القوية مع العواصم الإقليمية والغربية التي كان لها تأثير كبير في المشهد السياسي الليبي. وشدد الكبير قبضته على إدارة المصرف في طرابلس، وعبر اكتسابه شبكة علاقات مع قادة ميدانيين وتيارات سياسية أبرزها تيار الإسلام السياسي الذي كان يتحرك من منطلق مواجهة إقليمية مفتوحة آنذاك بين القوى الداعمة لمنظومة فجر ليبيا وعلى رأسها قطر وتركيا، وبين التحالف العربي المناهض للإرهاب الداعم لسلطات المنطقة الشرقية في معركتها مع الجماعات المتطرف، وعلى رأسه الإمارات ومصر. وفي فبراير 2016 قال بيتر ميليت السفير البريطاني في ليبيا أمام مجلس العموم البريطاني إن محافظ المصرف المركزي في طرابلس الصديق الكبير يغذي الجماعات المسلحة في طرابلس بالمرتبات، وهو ما أسهم في مد عمرها وتشجيع الشباب العاطلين عن العمل للانضمام لهذه التشكيلات. احتل منصب المحافظ مكانة مهمة في سياق المشاورات بين وفدي مجلسي النواب والدولة في “بوزنيقة” المغربية بخصوص المناصب السيادية، والتي نتج عنها اتفاق يناير 2021 القاضي بتولي إقليم طرابلس مناصب المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، والنائب العام، وديوان المحاسبة. بينما يتولى إقليم برقة منصبي مصرف ليبيا المركزي، وهيئة الرقابة الإدارية، في حين يتولى إقليم فزان المحكمة العليا، وهيئة مكافحة الفساد. خوري رحبت خلال اتصال هاتفي مع محافظ المصرف الصديق الكبير، بدعم مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة ومنذ التوقيع على الاتفاق لم يتوصل طرفا النزاع إلى تعيين من يتولى تلك المناصب، خاصة بسبب الخلاف حول منصبي المحافظ ورئيس مفوضية الانتخابات. وفق ذلك الاتفاق، فإن الصديق الكبير المتحدر من مصراتة ومحمد الشكري أصيل الخمس غير معنيين بتولي أهم منصب سيادي على رأس المصرف المركزي. في العام 2021 تقدم 12 نائبا بطلب إلى عقيلة صالح لإيقاف الكبير، وإحالته لمكتب النائب العام للتحقيق فيما نُسب إليه من اتهامات بإهدار مليار ونصف المليار دولار من أموال المصرف، وقالوا إن القانون منح سلطة الرقابة والإشراف الممثلة في مجلس النواب اتخاذ تدابير قانونية استثنائية، ومنها إيقاف الموظف العام عن عمله احتياطيًا كي يتسنى لجهة الاختصاص التحقق من التهم المنسوبة إليه، مشددين على أن الكبير يعمل بمعزل عن سلطة البرلمان، وعن مجلس إدارة المصرف المركزي، ويصرف على الحكومة دون مراعاة القانون المالي للدولة، وقانون الدين العام، ويتصرف في مبيعات الضريبة المفروضة على النقد الأجنبي وهي إيراد عام لا يمكنه صرفه. وشهدت العلاقة بين الكبير وسلطات شرق ليبيا وعلى رأسها مجلس النواب، المزيد من التأزم مع اتساع رقعة الانقسام السياسي والحكومي. وفي يونيو 2022 كانت العلاقات قد وصلت إلى أعلى مستويات التأزم بعد رفض الكبير مساعي مجلس النواب الرامية إلى تمكين الحكومة التي شكلها، برئاسة فتحي باشاغا من نصيبها من تمويلات خزانة الدولة . وكان مجلس النواب آنذاك قد سحب ثقته من حكومة الوحدة الوطنية في سبتمبر 2021 ومنحها في الأول من مارس 2022 إلى حكومة برئاسة فتحي باشاغا، غير أن حكومة الدبيبة حافظت على امتياز الشرعية الدولية وهو الغطاء الذي استفاد منه الكبير في الإبقاء على تمويلها في ظل ما كانت توصف بعلاقات تحالف وتعاون بين الطرفين على حساب مجلس النواب وحكومته وقيادة الجيش في بنغازي. الكبير نجح في فرض سلطة الأمر الواقع من خلال علاقاته القوية مع العواصم الإقليمية والغربية التي كان لها تأثير كبير في المشهد السياسي الليبي ومع بداية العام الجاري برز انقلاب في العلاقة بين الدبيبة والكبير، مع توسع حكومة الوحدة في الإنفاق دون ضوابط، ومع تراجع قيمة الدينار بشكل كبير أثر سلبا على الأوضاع المعيشية للمواطنين. واتهم الكبير حكومة الوحدة بعدم تنفيذ أي إجراءات إصلاحية، بل على العكس أوغلت في الإنفاق العام ذات الطابع الاستهلاكي. وأكد الكبير أن الدولة أنفقت منذ عام 2021 حتى نهاية 2023 قرابة 420 مليار دينار، وُجه معظمها إلى نفقات استهلاكية على حساب الإنفاق التنموي، وولدت ضغوطا على سعر صرف الدينار الليبي. ورد الدبيبة على محافظ مصرف ليبيا المركزي، قائلا في خطاب موجه إلى الرأي العام الليبي “يكذبون عليكم ويقولون إننا صرفنا 400 مليار”، مشيرا إلى أن حكومته خصصت 7.8 مليار لوزارة النفط، لتغطية المديونيات خلال السنوات السابقة، إضافة إلى تخصيص 1.8 مليار لقطاع الكهرباء ومليار دينار و977 مليونا لتوريد الأدوية إلى كافة المستشفيات. وفي خطوة تصعيدية وجه الكبير خطابا إلى رئيس مجلس النواب يدعوه فيه إلى تعديل سعر صرف الدولار، واقترح أن يكون سعر الصرف ما بين 5.95 و6.15 دينار للدولار بعد فرض ضريبة نسبتها 27 في المئة، مشيرا إلى أن الدافع إلى تعديل سعر الصرف هو ما واجه المصرف من صعوبة في توفير احتياجات السوق من النقد الأجنبي وتزايد حجم الإنفاق العام. وقد استجاب مجلس النواب لطلب محافظ المصرف. وفي السادس من يوليو الماضي، بحث محافظ مصرف ليبيا المركزي ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح خلال اجتماعهما في القاهرة الخطوات المتخذة لاعتماد الموازنة الموحدة لعام 2024. العلاقة بين الكبير وسلطات شرق ليبيا وعلى رأسها مجلس النواب شهدت المزيد من التأزم مع اتساع رقعة الانقسام السياسي والحكومي بعد أيام قليلة صادق البرلمان الليبي بالإجماع، على ميزانية عامة وموحدة لعام 2024، بقيمة 180 مليار دينار (37 مليار دولار)، وهي أضخم ميزانية في تاريخ البلاد، الأمر الذي أثار جدلا واسعا وتساؤلات بشأن أوجه إنفاقها. وأكد المراقبون آنذاك أن تلك الميزانية لم تأت إلا بعد اتفاق بين الكبير وصالح، وهو ما أزعج سلطات طرابلس التي حاولت عرقلة الاتفاق عبر الدفع بمجلس الدولة للتشكيك في شرعيته، لكن متغيرات أخرى حصلت لتزيد من تعقيد الأوضاع بالنسبة للدبيبة، وهي فوز عدوه «اللدود» خالد المشري بمنصب رئيس مجلس الدولة بدلا عن صديقه «الودود» محمد تكالة في جلسة تم تثبيت نتائجها بحكم القانون رغم محاولات الانقلاب عليها. مع ارتفاع منسوب الضغط السياسي على حكومة الدبيبة، وظهور بوادر فرز جديدة في المنطقة الغربية، وإعادة تشكل خارطة المصالح الإقليمية والدولية، كان لابد من العمل على قطع جسور التواصل بين مصرف ليبيا المركزي وسلطات شرق البلاد عبر الإطاحة بالصديق الكبير، وهو ما سعى إليه الدبيبة متسببا في توريط المجلس الرئاسي الراغب بدوره في الاستمرار في الحكم، عندما اقترح عليه تنفيذ القرار الصادر عن مجلس النواب في ديسمبر 2017 بعزل الكبير وتعيين محمد الشكري بديلا عنه، وهو أمر أثار الكثير من الجدل، نظرا لأن هناك قرارات صادرة عن مجلس النواب بسحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية، وبسحب صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة من المجلس الرئاسي ذاته، وتنفيذ قرار صادر عن المؤسسة الشرعية يعني الاعتراف بكل قراراته بما يدفع نحو ضرورة تنفيذها في آجالها القانونية. كان مجلس النواب واضحا عندما رفض أي محاولة للإطاحة بالمحافظ الحالي، وقرر إلغاء قراره العائد إلى ست سنوات خلت بتعيين الشكري بدل الكبير، واعتبر رئيسه عقيلة صالح أن ما صدر عن المجلس الرئاسي مجرد عبث لا يعتد به ولا يعوّل عليه. مجلس الدولة من جانبه قال أن القرار الصادر عن الرئاسي إجراء منعدم لا قيمة له وذلك وفقا لأحكام الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي الليبي والتفاهمات السياسية بين المجلسين في أبوزنيقة وقرارات مجلس الأمن. وأكد مجلس الدولة أن “استمرار الصديق الكبير محافظا لحين البت في المناصب السيادية وفقا لأحكام المادة 15 من الاتفاق السياسي” واعتبر “قرار المجلس الرئاسي تسمية محافظ جديد منعدم ولا قيمة له ولا يعتد به، وذلك وفق الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي والتفاهمات السياسية بين مجلسي النواب والدولة”. ولا يخفي مراقبون خشيتهم من أن تتحول معركة «المركزي» إلى حلقة جديدة من الصراع السياسي وربما من المواجهات الدموية انطلاقا من الطبيعة المحورية والمركزية للمصرف الذي يمثل السيادة المالية والاقتصادية للدولة، وتسعى الكثير من القوى الداخلية والخارجية لبسط نفوذها والسيطرة عليها، وهو ما يجعل مهمة إدارته مهمة سياسية بقدرة ما هي كفاءة مالية، حيث يحتاج إلى الكثير من الوعي بضوابط التعامل مع التوازنات والحسابات والمصالح التي تصب كلها تحت بند توقيع المحافظ.
مشاركة :