لطالما ظلت السينما ردة فعل على الواقع الذي تعيشه الإنسانية، فكانت في الكثير من الأحيان نقلاً لمتغيرات الحياة التي باتت تفوق الخيال، أو محاكاة لها برمزية تشير إلى مواطن العطب التي أصابت البشرية في ظل الحرب، والقتل، والتهجير، والعبودية، والإبادة، والاستغلال، وغيرها من أشكال الخراب البشري. ظلت السينما تتحمل هذا الدور وتقوم به لتقدم للإنسانية صورتها الوحشية، فظهرت خلال المئة عام الفائتة آلاف الأفلام التي ترسم تحولات الانسانية، ومراحل تاريخها المفصلية، إذ توسع الفيلم من إطاره التسجيلي التوثيقي، إلى جملة من الاشتغالات التي تقف على رأسها اليوم صناعة الأفلام بوصفها مصدر دخل قومي للبلاد الرائدة في هذا المجال؛ أمريكا، والهند، وفرنسا، وبريطانيا، وغيرها من البلدان الأوروبية. تناولت السينما الكثير من المفاهيم العالقة في التاريخ الحضاري للبشرية، إلا أنها توقفت مطولاً عند المفهوم الأكثر عسراً وتجذراً في سيرة الإنسان على الأرض، والمتمثل في التسامح أو التعايش بوصفه واحداً من المفاهيم التي تكرست لأجله كبار المماحكات الفكرية، والأطروحات اللاهوتية، والمنطقية عبر التاريخ. واجه البشر مفهوم التناحر والعنصرية بكل ما يحمله من قسوة، فشهدت الأرض حروباً طويلة راح ضحيتها ملايين البشر، وكان الخلاص الأبدي بالفكرة المتجذرة العصية على التحقق التسامح، والتعايش، أو الانتساب إلى الهوية الإنسانية بعيداً عن أي هوية قومية، أو إثنية، أو عرقيّة، أو غيرها من الهويات المفتعلة. يشهد تاريخ السينما الغربية على الكثير من الأعمال الخالدة التي اشتغلت على هذه المفاهيم، وكانت حريصة على تكريس جهدها البصري لتلمس جماليات السلام ومحاولة تحقيقه على أرض الواقع، فكان آخر هذه لأعمال الفيلم الذي شغل الوسط الفني العالمي باتمان ضد سوبرمان.. فجر العدالة، إذ يلخص الفيلم جملة الاجتهادات الفكرية، التي طرحها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه في مشروعه الفلسفي الذي ظهر بدايات القرن العشرين، وقدّم فيه خلاصات منطقية للعلاقة بين الخير والشر، ومفهوم السلام والعدالة على الأرض، وهدم فكرة التمترس الفكري، أو اللاهوتي، أو حتى العلمي. يطرح الفيلم تلك المفاهيم الغارقة في التجريد، في سياق الاشتغال على أفلام الحركة والعنف التي هي اليوم هاجس المشاهد الكوني، الذي يفرغ طاقة غضبه أمام الشاشة الكبيرة، ويتمثل صورة البطل وهو يقاتل بعنف بالغ ويصارع الطغيان، والشر بما يفوق التصور والخيال. مقابل هذا الاشتغال المتعدد القراءات والتلقي، يجد العائد قليلاً إلى منجز السينما الأمريكية خلال الأعوام الخمسة الماضية أنه أمام فيلم باذخ على صعيد الحكاية الإنسانية، والتحقيب التاريخي، وهو واحد من العلامات السينمائية التي حصدت جوائز عديدة منذ صدوره وهو فيلم اثنتي عشرة عاماً من العبودية إذ يقدم فيه المخرج ستيف ماكوين واحدة من أكثر مشاهد التجبر الإنساني قسوة، والمتمثلة في فترة عبودية الجماعات ذات الأصول الإفريقية في أمريكا، معيداً إلى الأذهان صورة بشعة عرفها التاريخي الحديث، ونجح في تجاوزها إلى حد ما. يحقق الفيلم الذي جاء بإنتاج مشترك بين بريطانيا وأمريكا مقارنة تاريخية بين زمنين لكل منهما إشكالياته التي لا يمكن الخلاص منها إلا بالرجوع إلى الهوية الإنسانية الخالصة، المتحررة من التعصبات، والتمركزات التي أحدثت خلافات قاسية بين البشر، وسجلت تاريخاً من الظلم والقهر لا يمكن وصفه. مقابل هذا الطرح، تظل السينما الأمريكية ممتثلة لتحولها التاريخي في اشتغالها على فكرة التعايش والتسامح مع ذوي الأصول الإفريقية، فيقدم فيلم البعد الآخر للمخرج جون لي هانكوك، مفهوم التعايش الذي وصلت إليه أمريكا تجاه الأجانب من أصول إفريقية، حيث تظهر بطلة الفيلم ساندرا بولوك بصورة المتسامح الاعلى الذي ينقذ طفلاً من أصل إفريقي متشرد، وتحتضنه في عائلتها، وترعاه وتكشف عن مواهبه، لتحوله بفضل الرعاية إلى واحد من أبرز لاعبي كرة القدم الأمريكية. على الرغم من حجم الرسائل السياسية التي تفرضها السينما الأمريكية، إلا أن المعاين لتاريخ السينما في العالم يجد أنها ظلت حريصة على تكريس مفهوم التسامح والتعايش بوصفه أسمى ما يمكن أن تصل إليه البشرية، في مجمل تاريخ تطورها الحضاري. محمد أبو عرب Abu.arab89@yahoo.com
مشاركة :