تُعنَى هذه المنظومة المعرفية بمجموعة القواعد المنطقية والخطوات الإجرائية التي تضبط التفكير وتؤطره وتحدد نمط التعميمات اعتماداً على المشاهدات التي ترتكز ابتداء على مرجعيات تسندها التجارب الإدراكية الحسية. كما تعنى هذه المنظومة بمختلف أنواع التبويب والتصنيف والقياس والتحليل والتعليل وانتقال التعميمات من نماذج استقرائية ابتدائية إلى نماذج استدلالية نهائية عبر تطبيق صارم لمختلف حديات الضبط المنهجي. وتعد النصوص التي حَبَّرَها ابن الهيثم في مقدمة كتابه الشهير «المناظر» المدونة أدناه من أنفس السرديات المنهجية التي يزخر بها التراث الإسلامي، وأجلها فكرا ومحتوى، وأجملها تصويرا لحديات الحسم التي تنعكس عناصرها المنهجية بجلاء في العبارات الهيثمية التالية: «ونستأنف النظر في مقدماته ومبادئه، ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير وظاهره لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدرج والترتيب، مع انتقاد المقدمات، والتحفظ من الغلط في النتائج». ويؤكد ابن الهيثم في منظومته المنهجية على أهمية دور العدل في ما يستقرئه متحريا في ذلك سلامة السبل المُوصِلَة الى الغاية التي يقع عندها اليقين، فقال في هذا الصدد «ونجعل في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء ليقول بعد ذلك «فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي يقع عندها اليقين» وقد أعقب ابن الهيثم هذا القول الآنف الذكر بعبارته التالية: «ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات»، إلى أن قال «وما نحن مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية براء». ويؤكد ابن الهيثم في منظومته المنهجية على الالتزام بالموضوعية في الكشف والاستقصاء فيقول «الواجب على الناظر في كتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق أن يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه، ويجيل فكره في متنه وجميع حواشيه، ويخاصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضاً نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسامح فيه» (السويدي 1980م). ويوضح الشكل أدناه الذي صممه كاتب هذا المقال أنموذج المنظومة المعرفية التكوينية لمنهجية الحسن بنلهيثم الائتلافية (أبوالخير، 1991م، 2000م، 2013م). إضافة إلى ما تم ذكره آنفا، يستعرض ابن الهيثم في كتابه المناظر عملية القياس المنهجي الذي يعني عنده التشبيه أو قياس النظير على النظير، فيقول مدللاً على منهجه القياسي «الإدراك بالقياس يحتاج إلى إعمال نظر وتفقد واستقراء جميع المعاني أو أكثرها». ويقصد ابن الهيثم من التدليل الآنف الذكر القياس التام الممزوج بالعلل مبيناً في هذا الصدد أن الإدراك بالقياس ليس إدراكاً بالأمارات وحدها. ولتأكيد جدوى هذه المقولة أردف ابن الهيثم قائلا: «ليس كل ما يدرك بالقياس يدرك بالأمارات» وذلك على اعتبار أن هناك وسائل أخرى للإدراك بالقياس بخلاف الأمارات معللا ابن الهيثم ذلك بقوله: «لأن القوة المميزة لا تقاس بترتيب وتأليف وبتكرير المقدمات كما يكون ذلك في ترتيب القياس باللفظ» (نظيف 1942م). ويعد هذا النص الآنف الذكر وفق ما سطره (النشار عام 1984م ) مجانسة مع ما يعرف في النص المنهجي المعاصر بقياس المثل الذي لا يحتاج إلى مقدمات كبرى وصغرى ولا إلى حديات وسـطى، وإنما تلحق الصورة بالإحساس المجرد بما يحضر عنها في الذهن فتتحقق المساواة بين الشبيهين كدلالة منهجية مميزة يقايس فيها ابن الهيثم المثل بالمثل لتحقيق قدر معقول من مساواة الأشياء ببعضها. من الجدير بالذكر في خاتمة هذا المقال الإشارة إلى أن بيكون قد تأثر بشكل جلي بحديات ابن الهيثم المنهجية الآنفة الذكر، فتوحيده، في كتابه «الأروجانون الجديد»، بين الملاحظة والتجربة عبر قوائم الحضور والغياب والمقارنة لدليل جلي على مدى محاكاته لمنظومة ابن الهيثم المنهجية في المجالات المتعلقة تحديدا بحديات انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط في النتائج وحسم مواد الشبهات. المراجع - أبو الخير، يحيى بن محمد شيخ، 1991م، الأبعاد المفاهيمية للمنهجية العلمية في التراث، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، العدد 49، جامعة الكويت. - أبوالخير، يحيى بن محمد شيخ،2000م، المنهجية العلمية بين التراث والمعاصرة: قراءة تحليلية للنصوص، مجلة العلوم والتقنية، ع 55، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية الرياض ص ص 21 - 25. - أبوالخير، يحيى بن محمد شيخ، 2013م، دراسات في نظرية المعرفة: المنهجية والتنظير والنمذجة في الجغرافيا، الجمعية الجغرافية السعودية، جامعة الملك سعود، الرياض، كتاب 226ص. - سويدي، يوسف، 1980م، الإسلام والعلم التجريبي، مكتبة الفلاح، الكويت. - نشار، علي سامي، 1984م، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، دار النهضة العربية، بيروت. - نظيف، مصطفى، 1942م، الحسن بن الهيثم: بحوثه وكشوفه البصرية، ج1، القاهرة.
مشاركة :