قل ما يُفهم أو افهم ما يُقال

  • 9/8/2024
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تجربة الكتابة تتضح فيها إشكالية إيصال المعنى أكثر من التعليم.. يجب أن أذكر في البداية أنني لم أقرأ كتابًا أو مقالًا مرتين إلا وكان فهمي للنص مختلفًا بشكل أو بآخر.. هذا جعلني أفكر كثيرًا فيما أكتبه؛ فهناك ما أعنيه وهناك ما يفهمه القرّاء باختلاف وعيهم وميولهم، كما يجب أن أذكر أن ما أعنيه قد يتغير بعد أن تمر فترة زمنية وأعيد قراءة ما كتبته.. هناك حكاية مشهورة لأبي تمام لا أذكر تفاصيلها لكنه قال بيتاً من الشعر أمام أعرابي وكان بيتاً مركباً فلسفياً فقال له الأعرابي: لماذا لا تقول ما يُفهم؟ ويبدو أن أبا تمام فكر في كلام الإعرابي فقال له في رد سريع: لماذا لا تفهم ما يقال؟ هذا السجال بين المُلقي والمتلقي يصنع الإشكالية النقدية سواء لدى الكاتب أو المعلم، وفي اعتقادي أن المشكلة تظهر بوضوح في مجال تعليم النقد والفلسفة، حيث يصبح الجدل حول فهم ما يُقال أو التحدث بما يُفهم هو محور العملية التعليمية. شاعر بحجم أبي تمام كان يرى أن على المتلقي أن يرتقي بثقافته وبوعيه كي يفهم ما يقوله وأنه غير مُلزم بأن ينزل بشعره كي يفهمه عامة الناس. يظهر لي أن الإشكالات الكبرى التي تواجه اللغة العميقة والكتابة الجادة والتعليم النقدي والفلسفي أن الجمهور المتلقي لم يعد مستعداً أن يفهم ما يُقال وأن على الشاعر والكاتب والمعلم أن يتحدث بما يمكن أن يفهمه الناس. أحد التحديات التي تواجه الأفكار الجديدة هو أنها غالباً ما يصاحبها قالب لغوي يصعب فهمه حسب اللغة والمفاهيم السائدة. ولأن الفكرة الجديدة يصعب تطويعها حسب اللغة التي يفهمها عامة الناس تبدو لكثير منهم أنها فكرة شاذة وغامضة أو غير مفهومة. خلال تجربتي الطويلة في تدريس النقد المعماري، وجدت أن المشكلة اللغوية هي في الأساس في المفاهيم لذلك غالباً ما أبدأ بطرح بعض الأسئلة على الطلاب لأكتشف غالباً إما أني سأتحدث عما لا يُفهم أو أن أبسط المفاهيم وهذا ما كنت ولا أزال أدعوه "التعليم غير المكتمل" أو الناقص وأعني بذلك أن الطالب لن يصل أبداً إلى مرحلة فهم ما يُقال. هذا الخلل يبدو تراكمياً ويزيد فجوة المقدرة اللغوية المفاهيمية لدى كثير من الناس وفي نفس الوقت يزيد من عزلة المثقف لأن قدرته على التواصل مع الناس تتقلص. ولكن هل أقصد بحديثي هذا أن ألوم الناس أو الطلاب كوني أرى أنهم لا يفهمون ما يريد المثقفون والمعلمون أن يقولونه كما ينبغي؟ وأنه كان يفترض بهم أن يرتقوا بوعيهم كي يتواصلوا مع ما يقال ويكتب. في الواقع أن جدل إيصال المعنى هو موضوع كبير تدور حوله "سيميائية اللغة" وكثير من الدراسات البنيوية حول اللغة ونصوصها حاولت أن تحيّد صانع النص وأن المعنى الحقيقي هو ما يفهمه الناس، أي أن فكرة "المعنى في قلب الشاعر" يمكن أن ترى حسب تلك الدراسات على أنها "المعنى هو ما يفهمه المتلقي" وسواء نزل صانع النص إلى مستوى وعي المتلقي أو لم ينزل يظل ما يفهمه المتلقي هو المهم، وما يعنيه صاحب النص يصبح أقل أهمية. هذا الجدل على وجه الخصوص يتعارض مع جوهر العملية التعليمية بعمق، لأن الطالب يمر بمرحلة تقييم واختبارات لكل ما سمعه وقرأه. ‎من ناحية أخرى تجربة الكتابة تتضح فيها إشكالية إيصال المعنى أكثر من التعليم. يجب أن أذكر في البداية أنني لم أقرأ كتاباً أو مقالاً مرتين إلا وكان فهمي للنص مختلفاً بشكل أو بآخر. هذا جعلني أفكر كثيراً فيما أكتبه فهناك ما أعنيه وهناك ما يفهمه القرّاء باختلاف وعيهم وميولهم، كما يجب أن أذكر أن ما أعنيه قد يتغير بعد أن تمر فترة زمنية وأعيد قراءة ما كتبته. لا اقصد بذلك أن الاختلافات في المعنى ستكون كبيرة لكن الفكرة التي دفعتي للكتابة قد تكون تغيرت. من جهة أخرى اكتشف أن كثيراً من القراء يميلون للحكاية أي الكتابة التي تتخاطب معهم وليست النصوص التي تترفع عليهم، وهذا النوع من الكتابة يحتاج إلى اللغة السهلة، فهل هذا التوجه يعني نزول الكاتب إلى مستوى وعي القارئ بدلاً من أن يرتقي به؟ في الواقع أن وصول الكاتب الى وعي القارئ ومخاطبة هذا الوعي باحترافية، يراه بعض النقاد على أنه أعلى درجات الاحترافية في الكتابة لأنه ليس من المجدي أن تخاطب الناس بلغة لا يفهمونها. ‎من المتفق عليه أن الكتابة النقدية يشوبها بعض التعقيد حول إيصال المعنى فظهرت تراتبية واضحة في لغة الخطاب النقدي نتيجة لكون النقاد لم يستطيعوا تحوير كتاباتهم إلى أسلوب الحكاية، ولكونهم كذلك لم يستطيعوا النزول إلي وعي القارئ العادي، لذلك قسموا كتاباتهم إلى ثلاثة مستويات: الأول منها حاولوا به مخاطبة الجمهور وهم يعتبرون هذا المستوى "لغة العامة" التي يبسطون من خلالها مفاهيم عميقة ليست ضمن اهتمام عامة الناس لكنها ضرورية للارتقاء بوعيهم. المستوى الثاني الخطاب النقدي المتخصص وهو خطاب ليس موجه للنقاد، بل لصنّاع النصوص، أما المستوى الثالث فهو موجه للنقاد أنفسهم وغالباً ما يركز على اللغة العميقة والفلسفية وهو مستوى لا يستهوي القارئ العادي، لكنه يمثل مخرجاً ذكياً لمن يريد أن يبقى على لغته الفلسفية، وفي نفس الوقت يخاطب الناس بلغتهم، ولكل مقام مقال.

مشاركة :