في الفساد والممانعة - د. زهير الحارثي

  • 5/3/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

إن المأسسة والقضاء القوي وصحافة من دون رقابة من الأدوات الفعالة لكبح جِماح الفساد وإضعاف نموه وهذا ما يمكن ملاحظته في تركيبة الأنظمة الغربية-يتم التعامل معها (قضايا الفساد) ضمن آلية محددة ومعروفة وثابتة محاربة الفساد بكافة ألوانه وطرائقه، بات أسلوباً شائعاً في عصرنا الراهن. تحول لظاهرة استشرت عدواها إلى البلدان الصناعية والنامية على حد سواء. ساهم في اندفاعها مؤثرات داخلية تارة وضغوط خارجية تارة أخرى، وإن كان ليس مهماً معرفة نوعية المؤثر بقدر ما أن المهم يكمن في النتيجة والأثر الذي يتمخض عنه. كما ان إدراك قيمة الوعي في عصر توفرت فيه وسائل العلم والمعرفة بات ضرورة ملحة من أجل مستقبل أجيالنا، فضلاً عن أهمية حضور القرار السياسي لأنه أثبت وبالدليل القاطع أنه قادر على إحداث التغيير متى ما أراد ذلك بغض النظر عن الممانعة الأيديولوجية أو الاجتماعية. شكلت ثقافة الممانعة نمطاً من وعي التخلف في عمقها وفي تركيبتها من مفاهيم وتقاليد وممارسات، ما عرقل مسارات التطور والنمو، وكشفت أن تخلفاً فكرياً ترسخ في الحياة الاجتماعية. أحد أهم صوره تتمثل في تشويه الحقائق وتزييفها، والاهتمام بالشكليات على حساب المضمون، ناهيك عن فقدان الرؤية العقلانية. البعض يرى بأن هناك تناقضاً ما بين بعض العادات والتقاليد وضرورات العصر ومتطلباته، ما يعني أن المسألة هنا لا تتعلق بالشرع أو بالنصوص الدينية وإنما حالة من الاشتباك والتداخل ما بين النص والعادة خلقها المتشددون في أذهانهم وعقول غيرهم، ولا سبيل للخروج من المأزق سوى فك هذا الاشتباك المتخيل في الذهن، ناهيك عن أسلوب الحزم الذي تمارسه الدولة في التعامل مع هذه الفئة التي تجاوزت الخطوط الحمراء بارتكابها أفعالاً مجرمة شرعاً وقانوناً. هناك صحوة ضد الفساد في المملكة وإن كانت العبرة بالنتائج والقدرة على اجتثاث جذور هذا الوباء. ثمة إرادة سياسية في خلق بيئة شعبية في مواجهة الفساد وليس الركون إلى المعالجات الموقتة. بمعنى أن النتائج المرضية المقصودة (الستر على الناس، الحفاظ على الروابط الاجتماعية، إخفاء الفضيحة بسبب السمعة. الخ) تكون لحظية التأثير ثم لا تلبث أن تزول، بل تتفاقم خطورتها كلما ازداد التساهل على المدى الطويل، ما يؤدي إلى نخر الاقتصاد الوطني وضياع الحقوق. محاربة الفساد يجب أن تكون غاية وضمن آلية محددة وواضحة لا تتساهل مع أي كان، فالقانون فوق الجميع، ويجب أن يبقى كذلك دائماً. ويبقى شعار المثالية (اليوتوبيا) السلاح الحقيقي لتدمير الفساد بأنواعه وأساليبه وإن كانت مهمة غير يسيرة المنال على أي حال. ويجب أن يتزامن مع ذلك وضع خطط تدفع بتحفيز الوعي كونه ينعكس تلقائياً على سلوك الفرد وتصرفاته ومواقفه، فالإنسان غاية التنمية والحضارة ومحورهما، بدليل أن حركة تطور المجتمعات والتاريخ تكشفان أن الفكر الإنساني هو الذي قاد التحولات الكبرى في الحضارة الإنسانية. وبالتالي شكل تضاريس ملامح إنسان هذا العصر. لا نستطيع قياس مستوى تقدم شعب من الشعوب إلا بمقدار فاعلية حركة الوعي والثقافة في تركيبته المجتمعية، لأن مكانة المجتمع تتحدد هنا من قدرة فئاته في فهم قوانين الحياة ومعرفة تراكم تجارب التاريخ. تشكل الحداثة تأتى من جهود الأفراد الذين يعيشون في داخل المجتمع، لا من خارجه. ولذا فالعملية التنموية لابد وأن تأخذ في اعتبارها البعدين العقلاني والأخلاقي في الإنسان من أجل تفجير طاقاته. ومع ذلك، ففي كل مجتمع هناك فئة فاعلة ومنفتحة قادرة على الحركة والاشتغال، وفئة أخرى مناهضة للتغيير لا يميزها عن الأولى سوى التشدد والانغلاق، ما يجعل تقدم المجتمع وتطوره مرهوناً بأيهما الأكثر قدرة على الإمساك بزمام الأمور وبالتالي التأثير في الساحة. بات واضحاً للعيان أن استمرار التخلف في مجتمعاتنا هو بسبب غياب الوعي ووجود ثقافة الممانعة التي تعني الجمود والسكون. طبعا هناك مظاهر بناء وتحديث وتنمية اقتصادية، إلا أنه ما لم ترافقها نقلة مشابهة لها فيما يتعلق بالحداثة الفكرية والثقافية، أي إنتاج وعي ثقافي وفكري وتنموي في المنظومة الاجتماعية، قادر على إقناع الشارع وبالتالي مواجهة تيار الممانعة الاجتماعية. من الطبيعي أن يسبب ذلك خللاً وانقساماً في طبيعة الحياة الاجتماعية ونموها، ويعكس حالة من الانفصام ما بين الوعي الاجتماعي والتطور المادي، لتصبح حضارة مجسدة مادياً، ولكنها ميتة وموحشة من الداخل. على أن انبعاث اليوتوبيا (المثالية) في عصر العولمة، له ما يبرره، فالتحولات والمتغيرات لم تعد وتيرتها بذلك البطء المعهود عنها في العقود الفائتة، بل أصبحت تتسارع وبشكل يفرض على المتلقي أن يتفاعل معها وإلا أصبح من الخاسرين. إن المأسسة والقضاء القوي وصحافة من دون رقابة من الأدوات الفعالة لكبح جِماح الفساد وإضعاف نموه وهذا ما يمكن ملاحظته في تركيبة الأنظمة الغربية-يتم التعامل معها (قضايا الفساد) ضمن آلية محددة ومعروفة وثابتة، في حين أنه في عالمنا العربي تظهر فجأة وتغيب فجأة تبعاً للموقف والظرف والمرحلة. وهو ما دفع البعض إلى القول إن المناخ العام في عالمنا العربي يهيئ الأرضية لنمو وتكريس هذه الظاهرة. صفوة القول الفساد تقتله الشفافية والممانعة تتلاشى بالوعي. هذه معادلة يجب تكريسها وما لم تنصهر داخل عقلية المجتمع، فان التخلف الفكري سيبقى مهيمنا بأدواته ويستشري الفساد بوسائله ما يعني انهيار المجتمع وضياعه.

مشاركة :